لم يكن ما شعر به يعني الإغماء ، حسب معرفته،، فهو يعلم أن الإغماء لا يمكن أن تتخلله كوابيس أو أحلام . وهو يعلم ،في الوقت عينه ،أن النوم الطبيعي في أعقاب كل هذا الألم المبرح – أمر مستحيل . ماذا حدث له بالضبط ؟ قام أمام الجميع وأمسك بالزمام ، ثم هتف : يا خالي من قتل أبي ؟ من كل الجهات جاءه الجواب ، والصدى معه : إنه العدو .لكنه عاد يسأل : ومن هو العدو ؟ فتطاحنت وتدافعت وتزاحمت من حوله الإجابات وترددت أصداء الكلمات – لكن ليس بكثير من الوضوح :
العدو أشقر الشوارب ، أزرق العينين ، أبيض البشرة ، أحمر الوجه ، يضع على رأسه (برنيطة ).0 ويحمل سلاحا ناريا آليا في العادة ، ويركب في دبابات أوفي مصفحات ، وهو لا يأتي على ظهور الخيل ولا يركب العربات أو الحناطير إلا للتنزه في شوارعنا وفي حاراتنا وعلى شواطئنا . وهو حين يتكلم ( يرطن ) وحين يتحدث بالعربية يجعل المذكر مؤنثا والمؤنث مذكرا و يلثغ ، ويلفظ الراء غينا .. وهناك استثناء وحيد في هذا ، فهو لايقلب الراء غينا حين يخاطبنا ، ولكنه يقول ( أرب ) وهو يقصد ( العرب).
حين قرر الخليلي أن يستعرض الوجوه التي تحلقت حوله وجدها ، سمراء، والشوارب كانت سوداء ، والعيون إما سوداء وإما بنية دكناء ، هي ، إذا ، ليست وجوه أعداء . فقام من فوره وتهللت أساريره ، وأحس بكثير من الطمأنينة ، وانثال في فؤاده جبل من الحب ، ما دعاه إلى أن يفتح ذراعيه ويركض نحوهم ليحتضنهم واحدا واحدا ، وكان يود لو أنه قادر على أن يحتضنهم كلهم دفعة واحدة .
حسن جدا ، اختار أن يبدأ برجل هش له وبش ،وهو ذو عينين سودواوين وسيعتين وله شاربان سوداوان كثيفا الشعر ، ويضع العقال الأسود فوق الكوفية البيضاء . كانت ابتسامته عريضة ، وهو يحاول استقبال الخليلي الذي كان يهرول نحوه ، فبادر إلى تعديل وضع عباءته الصفراء المذهبة فوق الكتفين . ما درى الخليلي إن كان احتضن الرجل أم احتضن الكون كله في لحظة نشوة نبعت من اكتشاف وجوده حيا ،وفي وسط الأهل والعشيرة ، لكنه متأكد أن وخزة صاعقة ضاغطة مباغتة كانت ترتطم فورا بفقرات ظهره الوسطى ، ما أرغمه هذه المرة على إطلاق الصرخة وكأنه يفجر قنبلة موقوتة من الألم :
من هو العدو ؟
اسم الله عليك يا جاد الله . ما بك تتقلب وتزبد وتبكي وترفس وتركل الفضاء وأنت نائم ؟
من قال له هذا الكلام ؟ من أيقظه إن كان قد استيقظ ؟ أهو نائم أم هو صاح يقظ ؟
أصحيح أنه كان نائما ، وان ما كان قد وقع لم يقع ، وان العدو صار له أكثر من وجه وأكثر من لون وأكثر من لغة ، وأكثر من وسيلة تعبير عن تنويعات تجلياته العدائية مابين قذيفة لهب ووخزة خنجر مسموم في الظهر ؟
حاول أن يفتح عينيه مرة أخرى عله يؤكد لنفسه في الأقل انه ليس ميتا وأنه لم يطعن بخنجر في الظهر ، وانه يكتنز – حتى اللحظة – صورة العدو الحقيقي ،ولكنها لم تكن تماما كما وصفها له خاله وهو يرى أباه جثة ملقاة في الطريق غارقة بدمها . كان ثمة في عيني أبيه ما أرعبه – حين تأملهما . يعرف منذ زمن – وليس يذكر من أخبره – أن القاتل الذي يطعن أو يقتل الضحية تنطبع صورته في بؤبوي عيني الضحية .آخر ما تراه عينا الضحية هو ( الجاني ) – إلا إن كان القتل غيلة ، أي بطعنة أو برصاصة من الخلف . ما قرأته عينا الخليلي جاد الله في عيني أبيه قبل أن ينهض خاله بمهمة إغلاقهما كان وجها ليس له عينان زرقاوان ولم تكن شواربه شقراء ولم يكن يضع على رأسه برنيطة ، ولم يكن الخليلي متأكدا إن كانت بشرة الوجه في النهاية حمراء – بل ربما كانت سمراء . فكيف له أن يتأكد من القاتل لكي يبحث عنه ويثأر لأبيه ؟
نهض الخليلي من نومه ، وكان يجرجر رجليه بثقل باد بعد أن تناهى إلى مسمعيه صوت طرق على الباب . توجه نحو الباب وهو يتثاءب ، فتحه ، فما رأى إلا ورقة تغطي وجه الطارق ، كانت تقول بصوت عال :إنذار بإخلاء الدار وما حولها – الحاكورة – كلها – فهي ملك خالص للياهو شالوم بشهادة .. وتوقف الخليلي عن تتمة القراءة – امتدت يده اليمنى تبعد الورقة عن وجه القادم ليكتشف أنه لم يكن ذا عينين زرقاوين ولا خضراوين ، ولم يكن له أي شارب البتة ، وكانت سحنته اقرب إلى (العرب ) منها إلى ( الأرب ) وكانت العباءة الصفراء الذهبية ترصع الكتفين ، مع ابتسامة :
أنا كنت شاهدا . أبوك الله يرحمه باع كل شيئ لهذا الرجل.
تنبه الخليلي إلى أن الرجل لم يلثغ .. بل أشار إلى من كان في حال اختباء وراءه، فإذ به يقرأ صورة الوجه الذي كان آخر ما انطبع في عيني أبيه . صاح :
ويلك ، انه قاتل أبي .
أبوك ماذا يا ولد ؟ أبوك مات ميتة ( ربه ) ولم يقتل .
وهذا الوجه ؟
إنه من أولاد عمك يا محترم .أمامك ثلاثة أيام وإلا اعتقلك الأمن كونك ستصبح خطرا على الإستقرار والأمن في البلد .
ضرب الخليلي جاد الله على جبينه ، وصفق الباب في وجهي القادمين ،وعاد كالمجنون يفتش في أركان البيت ، بحث في الخزانتين في غرفة النوم ، وفي دروج المكتب ، وخلف الصور المعلقة على الحيطان ، وفي المطبخ ، فما وجد إلا سكاكين المطبخ الخاصة بتقطيع الفاكهة . فعاد إلى الباب يفتحه ليفاجأ بخاله قدام عينيه :
الحمد لله انك جئت يا خالي .
تنحى عن الباب وشرعه قدام خاله الذي لم يتزحزح ، وكان فقط يركز عينيه في وجه ابن شقيقته :
ما الحكاية جاد الله ؟
خالي يقولون ..
قاطعه خاله :
- إنس . الحمد لله أننا أخيرا أقنعنا السلطة بالإفراج عنك ، هيا معي . غادر هذه الزنزانة حالا .
فرك جاد الله الخليلي عينيه ، وهز رأسه كأنه ينفض عنه الغبار ،وحاول أن ينظف مجريي السمع في أذنيه ، ثم استوى واقفا . . يحاول احتواء ما حوله بشبكتي نور مقلتيه.
كان كل شيئ يختلط في كل شيئ ، الألوان كلها ، الملابس كلها ، والأصوات كلها ، وحين هتف :
من هو العدو يا خالي ؟
تناتشته الإجابات كما تفعل كلاب الصيد بالفريسة ، ولكنه لم يستطع إلا استيعاب جملة واحدة فقط :
فتش عنه تجده .
لو كنت أعرفه أكنت سألت وطعنت و ضربت وسجنت وانكسر ضياء ظهري فوقعت في قلب شجرة صبار ؟