الذي ولد تحت اسم ريكاردو إليثار نيفتالي لأب يعمل في سكة الحديد، وأم معلمة في مدرسة الأطفال في مدينته (برال)، ولعلها سمة القوة البارزة منذ طفولته كانت الدافع في اختيار اسم غير اسمه يوقع به قصائده! وسيدخل بابلو نيرودا (عمق التاريخ) تحديداً منذ العام 1920 بعد نيله جائزة في مسابقة للشعر أقيمت في مدينة (ماولا).
الشعرية البالغة التي تتميز بها قصائده هي التي جعلت (تشيلي) آنذاك تنظر بعين الدهشة إلى الشاب النحيل الذي لم يتمكن أحد من طلاب (سنتياغو) من الإفلات من سطوة الجمالية الخاصة لشاعر تشيلي، حتى صار قدوة ومثالاً للجميع. لقد أدار الشاعر ظهره لذاك المشهد العجيب لمدينته القابعة وسط الأراضي التشيلية، وقد كتب في مذكراته: (أنا أنتمي إلى جزء من أرض الجنوب البائسة قريباً من أروكانيا، وقد كان تحركي منذ أبعد الساعات محكوماً بأن تلك الأرض الغابية والغارقة دوماً بالأمطار تمتلك سراً من أسراري لا أعرفه...) أدار ظهره لها، إذن، متوجهاً إلى العاصمة حيث بدأ الدراسة في المعهد التربوي، وأصبح فيما بعد أستاذاً للغة الفرنسية، لعل مدينته الأولى لم تغب تماماً وهي تظهر بأشكال متعددة في قصائده حتى لو أوحى للكثيرين أنه ليس مهتماً في تذكرها. وفي قصيدة (العودة إلى المدينة ) من ديوانه المتفرد (شاذ) نلاحظ حنيناً خفياً لمسقط رأسه رغم تركيزه على الإحاطة بكلية الشعر في أعماقه، يقول في القصيدة:
«وداعاً يا شارع الزمن القذر
وداعاً، وداعاً أيها الحب الضائع
سأرجع إلى صنوبرة بيتي
سأرجع إلى حب محبوبتي،
إلى ما كنت وإلى ما أنا كائن،
ماء وشمس ، أرض وتفاح،
شهور بشفاه وأسماء ، سأرجع كيلا أعود،
لن أخطئ أبداً بعد اليوم ،
فالمسير إلى الوراء خطر
لأن الماضي يصير فجأة سجناً»
من جهة أخرى كان هناك الادعاء الذي ردده الكثيرون بأن الأيدلوجيات المعبأة في قصائد الشاعر أضرت بالشعر الحقيقي لصالح الأفكار والمبادئ، وبأن نيرودا حلّق فوق رياح الاشتراكية إلى الشعوب العربية التي أعجبت، مجاناً، بالميول اليسارية للشاب الغارف، دون ملل أو كلل، من منابع السياسة ليشبع أهواء الطامحين نحو انقلاب ما، ولو في القصيدة:
«لكل عجلة أقول
انتظري أيتها العجلة، انتظري:
ها أنذا آت، ها أنذا قادم شمساً
صغيرة
لنتدحرج معاً.
أجل أيتها العجلة ، سنتدحرج معاً
أجل أيها اللهيب ، سنلتهب معاً
أجل أيها القلب
أعرف .. أعرف
ومعروف أنه :
إلى الحياة ، إلى الموت
هذا المصير
لكننا مغنيين سنموت»
لكن مثل هذه المقولة لا تحسم منطقة الشاعر الإبداعية ، ولا نستطيع أيضاً أن نحسب عليه ميوله التقدمية في الشعر، خاصة أنه عاش في زمن كان النموذج السوفييتي الاشتراكي القائم يشكل مرجعية رئيسة للأدب الواقعي، لقد كان الانتماء الفكري للشاعر مقياساً لجودة النص الأدبي في تلك الفترة ، لكن قصائد الشاعر لم تكن جميعها صدى لحقبة الأدب والنضال الثوري، بل كان عاشقاً معذّباً وجميلاً للغاية ، استخدم تقنيات سردية هائلة ، وكمعظم شعراء أمريكا اللاتينية (لوركا، ولاحقا كتاب مثل: كورتاثار وماركيز ) وغيرهم، استفاد من المناخات الغرائبية المتخمة بالشغف لتلك القارة وهو القائل :
«ستسألون لماذا لا تحدثنا أشعاره
عن حلم الأوراق
عن البراكين العظيمة
في موطن ميلاده؟
تعالوا انظروا الدم في الشوارع».
ولكن (نيرودا) استفاد من السريالية أيضاً، وكتب في معظم الأوقات الشعر لأجل الشعر فقط، متجاهلاً الأيدلوجيات وضرورات المرحلة حتى في شعره القومي، وهذا يبرز في ديوانه الشهير (إسبانيا في القلب) حيث كتبه بعد أن شهد سقوط الجمهورية الإسبانية وبداية الحرب العالمية الثانية، ليتمكن أخيراً من استئجار السفينة ( ويبينغ) التي تصل في أواخر السنة إلى ميناء بالبارايسو في تشيلي مزدحمة باللاجئين الإسبان . يكتب عن مفخرة ذلك الإبحار الحاشد:
«سفينتي كانت تنتظر
باسمها الصاخب
(وينبيغ)
ملتصقة برصيف الحديقة المشتعلة
بالأعناب القديمة الفظة في أوروبا
ولكن معشري الإسبان لا يأتون
من فرساي
من حفلات الرقص المفضضة
من سجاجيد الديسم القديمة
من الكؤوس التي تزغرد
بالنبيذ
لا، ليسوا آتين من هناك
لا، ليسوا من هناك...»
في العام 1973 نشرت مجلة (ترينفو) الإسبانية رواية (شاهد عيان) للكاتب الكولومبي المعروف ( بلينو أبوليو ميندوثا) التي تروي تفاصيل الساعات التي أعقبت موت الشاعر الحاصل على جائزة نوبل.. ومنها هذه الخاتمة:
«تحت لوح من زجاج ، كان وجه نيرودا المسجى فوق قطعة من قماش الساتان ، إنه يبدو ناقصاً ، غير واقعي، لم يكن فيه بريق الحياة ولكن قميصه الذي يلبسه، كان مفتوحاً عند عنقه، مما يوحي بالتفكير في أيام الآحاد الهادئة في إيسلا نيغرا، أو في صبيحات ربيعية في باريس ، المدينة التي أحبها نيرودا وفارقها إلى الأبد منذ عام...»