فقد ولِد في عائلة نبيلة وأمضى طفولته في قرية «أوريل» بمقاطعة «سباسكوي لوتوفينو» ثم انتقل مع عائلته الى موسكو عام /1833/ وانتسب الى جامعة موسكو ، وبعد عام انتقل الى جامعة بطرسبرج فدرس الفلسفة في كلية الآداب وتخرج منها عام /1837/ . بدأ الكتابة منذ ان كان طالباً وكتب القصائد الشعرية الرومانسية ، ثم نشر قصصه في مجلـــة )سوفريمنيك( تحت عنوان «مذكرات صياد» وقد حقق بذلك شهرة واسعة في روسيا . ومنذ ان نشر قصصه الاولى قال عنه الناقد الروسي الكبير بيلنسكي : «إن تورجينيف سيصبح كاتب روسيا المبدع في المستقبل « . ففي عام /1856/ نشر روايته «رودين» وبعدها ورواية «آسيا» عام /1858/ ورواية « بيت النبلاء « عام /1859/ ولعل روايته الشهيرة « آباء وبنون» عام /1862/ التي أهداها الى ذكرى بيلنسكي تعتبر من أهم اعماله الروائية على الاطلاق والتي حققت له شهرة عالمية . فقد قال عنها تشيخوف : «أية رواية عظيمة هذه» .
وفي منتصف الاربعينيات من القرن التاسع عشر بدأ بكتابة المسرحيات ، فقد سار على خطى واقعية غوغول فكتب مسرحية « الافلاس « عام /1846/ وفي عام /1850/ كتب مسرحيته الشهيرة « شهر في القرية « والتي أثرّت كثيراً على كتابات تشيخوف فيما بعد . وسوف نأتي على ذكرها بالتفصيل . وفي منتصف الخمسينيات تابع كتابة مواضيعه عن الريف فكتب مسرحية « مومو « عام /1854/ وأتبعها بمسرحية « بانسيون « عام /1855/ . وفي ايلول عام /1849/ نشرت وعرضت كوميديا « الأعزب « في ثلاثة فصول وصوّر فيها تورجينيف موضوع الانسان البسيط « المسحوق « . فالمسرحية تعرض بواقعية شفافة عالم الموظفين الفقراء والذين لا تسنح لهم الفرصة في الترقي الوظيفي أمثال « موشكين « البطل و « فيلتسكي « خطيب الفتاة ، فيعيشون حياة بائسة رغم ما يبذلونه من جهد صادق في عملهم . وفي اطار الواقعية يقدم تورجينيف سلسلة من المواقف الدرامية الحارة ، فشخصية « موشكين « بطل المسرحية الذي يرعى الفتاة اليتيمة « ماشا « ويضمها الى كنفه بعد موت أمها ، فيرعاها كإبنة له ويسعى ليجد لها الزوج المناسب . وحين يتخلى عنها خطيبها تشعر الفتاة بالمرارة واليأس ، وكذلك يحسّ موشكين بفشله في إسعاد ماشا . ويقع موشكين ضمن مفارقات كوميدية فيتأرجح بين مشاعر الغضب والثورة على الخطيب الغادر ، والرجاء والأمل في عودته . وفي نفس الوقت تصلنا مشاعر موشكين الصادقة تجاه الفتاة ورغبته في إسعادها . وها هو موشكين لا يكاد يصدِّق نفسه وهو الأعزب في هذه السن بأنه سيتزوج من ماشا البسيطة الطيبة الجميلة . فيأخذ على نفسه عهداً بإسعادها وتحقيق كل ما حُرمت منه . من ناحية أخرى نجد فيلتسكي الذي يضحي بحبه في سبيل مصالحه الشخصية والمظاهر الخداعة بتحريض من صديقه /فونك/ الالماني فيشير عليه مدّعي الثقافة والتقاليد وبعجرفة واضحة يدعو صديقه بترك الفتاة التي يحبها لأنها ليست من مستواه الاجتماعي وقد تفسد له مستقبله في الوصول الى مركز مرموق . عرضت كوميديا الأعزب في بطرسبرج في تشرين الاول من عام /1949/ ثم في موسكو في كانون الثاني /1850/ . وكانت هذه اول كوميديا تعرض لتورجينيف . وقد كتب الكاتب نيكراسوف عنها قائلاً بأنها أضفت على الممثلين الروس شعوراً بالمسؤولية والالتزام الكامل بالتعايش الامين مع نصّها الصادق . وكان نيكراسوف يرى في هذه الكوميديا الواقعية امتداداً رائعاً لمدرسة غوغول في الدراما.
إن مسرحية « الأعزب « هي أفضل ما قدمه تورجينيف للمسرح في مضمونها وبنائها الدرامي . أما كوميديا « شهر في القرية « /1850/ فتعرض تقاليد جيلين وطبقتين اجتماعيتين وتبرز مدى تأثر شخصية الفرد وتطوره في تلك الطبقة التي ينشأ فيها . تتميز كل من الطبقتين بسمات اجتماعية وفكرية ونفسية معينة ، طبقة النبلاء والمثقفين المفكرين من ناحية ، والطبقة المتواضعة والبسيطة التي تتصرّف على سجيتها من ناحية اخرى ، فنتاليا بتروفنا زوجة الثري ايسلايف امرأة متزنة على قدر كبير من الثقافة والمركز الاجتماعي والثراء ولكنها تحسّ بالشيخوخة الروحية فقد كبلتها قيود طبقتها الارستقراطية ، وتسعى الى الانطلاق والخروج من تلك القيود فتقع في حب الطالب « بيلايف « وهو شاب بسيط وتلقائي في سلوكه وحياته . وفي نفس الوقت تشعر « فيروتشكا « الفتاة الصغيرة ربيبة المنزل بالحب تجاه بيلايف كذلك ... وتتطور أحداث المسرحية فيبدأ صراع بين الزوجة التي تحب الطالب وبين الفتاة الشابة التي تفضح ما تحاول أن تخفيه ناتاليا بتروفنا من عاطفة دفينة تجاه بيلايف . وتتعقّد الاحداث عندما يظهر « راكيتين « صديق الاسرة النبيل المثقف الذي يحب الزوجة ايضاً . ويصل التوتر الدرامي الى ذروته عندما تعاني ناتاليا بتروفنا بين رغبتها في الانطلاق والمرح مع بيلايف الشاب الفقير ذي الطبيعة المتفتحة المحبة للحياة وبين تفكيرها في زوجها الطيب ومكانتها الاجتماعية وكذلك في صديقها المخلص « راكيتين « . ويصل التوتر الى قمته عندما تعترف الفتاة الصغيرة بحبها لبيلايف ، فتحسّ ناتاليا بالضياع ولا تستطيع السيطرة على قلبها . ثم تبدأ العقدة في الانفراج حتى ينتهي الامر بمغادرة الطالب بيلايف المنزل وكذلك يرحل ايضاً « راكيتين « لتعود الامور الى مجراها الطبيعي . ولقد كان إخراج ستانيسلافسكي لكوميديا « شهر في القرية « عام /1909/ بداية مرحلة جديدة وهامة لمسرج تورجينيف ارتبطت بالفهم الصحيح لفنه المسرحي واكتشاف سماته المميزة وخصائصه مما ساعد على انتشار عروض مسرحياته في روسيا واوروبا . وفي كوميديا « الريفية « التي نشرت وعرضت في كانون الثاني /1851/ وقد كتبها تورجينيف خصيصاً لصديقه /شبكين/ نجم المسرح في موسكو ويصوّر فيها ذكاء المرأة ودهاءها وحسن تدبيرها ولباقتها ودلالها . داريا ايفانوفنا تشعر بالسأم من حياة الريف وما يكتنفها من رتابة وملل وتتوق نفسها الى الانتقال الى العاصمة حيث حياة البهجة والمرح . ولكن كيف السبيل الى ذلك وهي زوجة موظف صغير في الريف وليس هناك أي أمل في تغيير ظروف حياتها ... غير انها لا تستسلم للأمر الواقع بل تستخدم ذكاءها لتحسين وضعها الاجتماعي وتحقيق ما تتطلع اليه من حياة المرح والترف .
أحدَث نشر كوميديا /الريفية/ وعرضها على المسرح صدى كبيراً في الاوساط وسارع النقّاد الى تقييمها ، ففريق منهم مثل الناقد « فولف « أشاد بنجاح المسرحية وإن كان لا يرى فيها أكثر من ملهاة تصلح للقراءة في الصالونات الادبية . هي وإن كانت قد أحرزت نجاحاً اكثر من بعض مسرحيات تورجينيف الاولى والأكثر شهرة مثل « الأعزب « فهذا يرجع الى ان المؤلف يعزف فيها أنغام الحب والغرام والدلال وهي من الدعائم الاساسية لكوميديا ذلك العصر .
في سنواته العشرين الاخيرة عاش تورجينيف في الغربة فسافر اولاً الى بادن ثم ذهب الى باريس حيث تعرّف على مجموعة من الادباء والمفكرين امثال فلوبير – دودي – اميل زولا – الاخوة غونكور – غي دي موباسان . هؤلاء جميعاً وجدوا في تورجينيف واحداً من أهم كتّاب الواقعية في الادب العالمي . فقد اعتبره موباسان معلمه الاول . وكان كل من هوغو وتورجينيف قد اصبحا من كبار كتّاب اتحاد الادباء العالمي الذي عقد في باريس عام /1878/. ترك تورجينيف أثراً كبيراً على الكثير من الادباء نذكر منهم : ليف تولستوي – تشيخوف – بونين – فيرسايف وآخرون من الكتّاب الروس والعالم . وقال عنه تولتسوي : « لقد قدّم عملاً كبيراً عندما أبدع شخصيات نسائية مدهشة « وقد اعتبره لينين بأنه أروع مَن أبدع لغة خاصة في الأدب ... لغة جميلة وعظيمة .