تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«علاقات عامة» لسمير ذكرى ثنائية الجمال والفساد

ملحق ثقافي
11/8/2009م
ماهر عزام

قبل أن يهم المخرج سمير ذكرى بالبدء في إخراج فيلمه الأحدث (حراس الصمت) نجح فيلمه الأسبق (علاقات عامة) في الالتقاء بالجمهور عبر عرض جماهيري في صالة الكندي مؤخرا...

قبل البدء في قراءة الفيلم ثمة أسئلة لئيمة حول مفهوم العرض الجماهيري لفيلم سوري..أي فيلم..هل يعني أن نضع الفيلم في صالة عرض وكفى؟ أين الترويج الإعلامي؟ ما هو أفضل توقيت يتيح أعلى نسبة مشاهدة؟ ما هي مؤشرات استمرار عرض الفيلم في الصالة؟‏

أسئلة كثيرة إجاباتها غير واضحة حتى لا نقول إجاباتها مدروسة ومقصودة وتهدف إلى تبخيس الفيلم السوري المتميز حقه.!‏

سمير ذكرى تنطبق عليه صفة المخرج بكل أبعادها الابداعية فهو فنان يمتلك اسلوبية سينمائية لافتة في مسار الفيلم الروائي السوري إذ كان لفيلمه الأول (حادثة النصف متر1981) فتح نوع جديد من السينما في سورية حيث اعتبر بادئة موجة سينما الشباب في سورية فبعده تابعت القافلة مسيرها مع محمد ملص وأسامة محمد وعبداللطيف عبد الحميد ورياض شيا.‏

سمير ذكرى مخرج ينتمي إلى طبقة من المخرجين القلة في الوطن العربي فهو صاحب مشروع رؤيوي للمجتمع، ينطلق من توصيف الواقع وتحليله وتقديم الصورة السينمائية المفعمة بالفكر والرؤيا..هو لا يستعرض أدواته بل يسعى لإخفائها لصالح إظهار البعد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لكن بصورة مضمرة عبر تكوين الشخصية وخياراتها وقراراتها ومصيرها..مخرج ينحاز للمستقبل المشرق وللصورة الناصعة عن الحقيقة حتى لو كانت جارحة. كما فيلمه وقائع العام المقبل حيث يؤكد أننا نملك المشاريع المميزة والناضجة لكننا نفتقد الأدوات..ومع ذلك ليس علينا أن نيأس..لا بد من ابتكار طاقة نور في مكان ما..لا بد من توظيف كل ما بيدنا لنخطو نحو الامام..لا أن نقعد ونندب الحظ.‏

يسيطر على نمط عمل سمير ذكرى الفكر التنويري الناقد للواقع كما في فيلم (تراب الغرباء 1998) الذي رصد فيه أفق العلمانية في المجتمع العربي عبر شخصية المفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي.‏

أما فيلمه الذي تم عرضه مؤخرا على الجمهور في صالة الكندي واستمر لبضعة أسابيع فهو فيلم (علاقات عامة) الذي نال عنه برونزية الأفلام الطويلة في مهرجان دمشق السينمائي الرابع عشر2005. بينما نال فارس الحلو جائزة أفضل ممثل في مهرجان فالنسيا لأفلام البحر المتوسط.‏

يكشف الفيلم نهم المجتمع الفاسد لالتهام الأنثى، وكأن الفيلم يقول بأن قضية المرأة وطبيعة النظرة إليها هي صورة من صور الواقع..وهذا الرأي يعيدنا إلى المقولة التقدمية التي ترى بأن قضية المرأة هي اختصار لأزمة المجتمع ومجهر يكشف عيوب التركيبة العامة للأمة ومسار تطورها أو انحدارها.‏

الفيلم دراميا يقدم أنموذجا مستهلكا لمثلث الغرام (رجل ثري يحب امرأة ويتزوجها سرا لكنها تنجذب لرجل آخر) لكن المرأة التي ترتبك في اتخاذ قرارها مع من تريد ان تكون ...مع المال أم مع مشاعرها وأحاسيسها؟ تكتشف في النهاية أن الرجلين وحشان بأسماء مختلفة..لكن ذلك لا يبرئها لأنها أرادت هي أيضا أن تلعب بالرجلين مستغلة حاجة لكل منهما لها..إذا المعادلة متكافئة..وهذا ما يجعلنا نبحث عن اللاعب الأكبر في الفيلم وهو هنا خفي ومضمر..‏

هل هو في البيئة المحيطة؟‏

الفيلم يقدم استعراضا جميلا للبيئة السورية عبر لقطات مشرقة إضاءة وانسيابية وجمالية في تكوين الكادر لمجمل الأمكنة التي تتحرك فيها الشخصيات..سواء الأمكنة التاريخية أم المعاصرة..وهذا يجعلنا نبحث عن جواب لسؤالنا عن مصدر قرارات الشخصيات وخياراتها من جديد.‏

ميزة هذا الفيلم في أنه يحرض المتلقي للغوص أكثر في ما يريد وما لا يريد الفيلم قوله صراحة..‏

في العلاقات العامة الفيلم والمفهوم..الكل يريد مصلحته الذاتية حتى لو على حساب الآخرين..فالعلاقات العامة هي مفتاح مفهوم السوق وهي إحدى أهم أدوات التسويق.. وهذه شيفرة الفيلم في كون محوره الرئيسي المرأة.‏

وهنا تغدو العلاقات العامة سمة للمرحلة التي تعيشها الشخصيات، وكأنها حبة الكرز التي تزين الكاتو الفاسد..الزوج المخادع، المحب الغشاش، المرأة المرتبكة والمراوغة.‏

كم نحن بحاجة إلى علاقات عامة لتسير عجلة الحياة؟‏

ثنائية الفساد والجمال‏

مثلما فعل في أفلامه السابقة وخاصة ( حادثة النصف متر، ووقائع العام المقبل) يطرح سمير ذكرى في فيلم علاقات عامة فكرة الفساد التي تسيطر على سلوك الشخصيات دون أن تفقد حضورها الإنساني، وهنا يبدو الفيلم وكأنه يسير على خيط رفيع بين أن تكون الشخصيات فاسدة لخلل ذاتي فيها أم مفسدة بفعل الزمن والمكان..سمير ذكرى تنطلق اسلوبيته في رسم الشخصية السينمائية من التقاط تقاطع استثنائي بين بنية الشخصية الداخلية وبين محيطها، لكن البنية التي تهيمن على صيرورة الشخصية ومصيرها هي بنية الواقع بكل تفاصيله..وهنا تبدو الشخصية في معظم أفلام سمير ذكرى انعكاسا للواقع وصورة مكثفة عنه..دون أن تتحول الشخصية إلى نمط حامل لفكرة خارجية ومسبقة.. إنما كينونة تلتقي عندها الخيارات الذاتية مع فعل الواقع وتأثيره.‏

لذلك كله يمكن قراءة أفلام ذكرى على أنها صورة عن البنية العميقة للمجتمع، وأعتقد أن هذا أقصى طموح تسعى لانجازه السينما في العالم.‏

السياحة ..امرأة‏

سمير ذكرى من المخرجين الذين يهتمون بكل تفصيل في الفيلم فاختيار مجال عمل الشخصية يجب أن يكون طبقة إضافية في الفيلم تساعد على زيادة كثافة الفكرة التي يعالجها..فحين يختار مهنة المحور الشخصية الرئيسية في الفيلم والذي تتمحور حولها الأحداث دليلة سياحية فهذا ليس لمجرد إظهار الصورة السياحية لسورية كما بدا الفيلم للبعض حيث اعتبروه صالحا ليكون فيلما دعائيا للسياحة في سورية يعرض في العالم لجذب السياح إلى بلدنا..بينما تبدو لي هذه الفكرة مجرد فهم غبي للفيلم لأنه يقول غير ذلك تماما..‏

المرأة سلاف معمار دليل سياحي للسياح الأجانب تقودهم إلى الأماكن الممتعة في المكان لكنها دليل جنسي لغير السياح أي المحيطين بها، إذ يريد كل منهم التجول عبر جسدها كما فعل فارس الحلو في مشهد تقبيل الساقين..فالفيلم يحاول القول بأن المرأة سياحة للبعض كما يمكن أن تكون السياحة امرأة..‏

الايقاع ضد الفيلم‏

الفيلم طويل نحو مائة وأربعين دقيقة الأمر الذي يجعل متابعة الفيلم مرهقة على المشاهد دون أن يكون هناك ما يستدعي ذلك لا على مستوى البنية الدرامية من أحداث وتشويق ولا على مستوى الأفكار، ويبدو لي أن ذلك هو مطب الفيلم في كونه لم يحظ بكثافة حضور أو متابعة حضور فبعض الحفلات في صالة الكندي كان الجمهور على قلته ينسحب حال توقعه بالنتيجة الدرامية التي ستؤول إليها الأحداث، على الرغم من محاولة المخرج الإبقاء على الجمهور بأدوات الجذب الغريزية عبر الجسد الأنثوي الصارخ والمشاهد الحميمية الموظفة في السياق الفكري للفيلم، وكذلك عبر الصور العامة الجميلة للآثار والموظفة أيضا..لكن بطء الإيقاع أثقل على المتلقي..‏

التمثيل..ذكي وممتع‏

أدى سلوم حداد شخصية الزوج المسؤول بطغيان هائل على الشاشة وحضور مميز، اما فارس الحلو فمع لقطاته الفكاهية الجذابة سيطر على كل المشاهد التي جذبت الجمهور وأثرت فيه..سلاف معمار المرأة بكل التفاصيل فقد بدا واضحا مدى عملها على بنية الشخصية النسائية ..المرأة الضحية والفاعلة..المرأة المرتبكة في خياراتها حتى اللحظة الأخيرة..المرأة الصورة الأكثف عن التحولات التي تجري في سراديب المجتمع ككل..وأخيرا المرأة المحرضة لشهية كل من يراها..أداء عال في الكادر السينمائي.‏

بصمة نوري اسكندر‏

رغم ما يسعى الفيلم لكشفه من تناقضات داخل المجتمع السوري سواء على صعيد خيارات الزواج المختلط أو على صعيد تعارض الطموح والواقع..أو على صعيد الأحلام المنكسرة مع سقوط الاتحاد السوفيتي عبر إحدى الشخصيات إلا أن الموسيقا التي غلفت الفيلم للفنان نوري اسكندر كانت نابعة من عمق التاريخ الموسيقي للمشرق الحضاري السرياني القديم..والمعروف أن سمير ذكرى يعتبر الموسيقا إحدى الطبقات الأساسية التي على المخرج ان يوظفها لصالح رؤيا المخرج الفكرية منذ أن استعان بزياد رحباني في فيلمه وقائع العام المقبل.‏

هكذا كانت بصمة نوري اسكندر بوصفه كاهن الموسيقا السورية واضحة وراسخة في ذاكرة المتلقي السمعية حتى ترافقه في كل محاولة لقراءة الفيلم.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية