تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


في الشعر

ملحق ثقافي
11/8/2009م
خيري عبد ربه

في الوقت الذي أصبحت فيه مؤثرات الآداب والفنون الأوربية واضحة المعالم في عطاءات كتّابنا العرب بدءاً من الرواد إلى يومنا هذا حيث تجلى ذلك في الرواية والشعر والقصة القصيرة والأدب المقارن والمسرح أيضاً ,

حتى أن بعض الكتّاب العرب وصل به الأمر مرحلة الاستلاب , وفي الوقت الذي نجد فيه أنه مما يميز المبدع العربي ويعطيه خصوصيته وأن يمتلك القدرة على اقتحام مناخاتٍ إبداعيةٍ بكرٍ لم يقتحمها أحد قبله , وهذا ما يؤهله بالضرورة للذهاب باتجاه حماسٍ متجددٍ لتهديم القديم , ضمن سلسلة تفجرات بهدف بناءٍ جديدٍ يحمل ألق العصر ويتناسق مع حركة التطور التي يعيشها , وكل هذا يمكن أن يشكل بالضرورة رافعةً حقيقةً لوضع إبداعنا العربي المعاصر في المقدمة.‏

وكما قال الكاتب الجزائري رشيد بو جدرة ذات يوم :‏

«لا بد من الحداثة .. إننا محكومون بالتطور والتقدم ولن يكون لنا كاتب كصاموئيل بيكت إذا لم يكون عندنا مجتمع يعرف معنى الانتحار فلسفياً».‏

إن في مقولة رشيد بو جدرة ما يلفت النظر لكن بين أدبائنا أيضاً من يستحقون الإشارة إلى إبداعاتهم في مجالاتٍ مختلفة وإن كان النقد الأدبي العربي قد قصّر كثيراً عن تقديمها بما يليق والموهبة التي اتكأت عليها , دراسة ً أو تمحيصاً أو تصديراً إلى القارىء بلغاته المتعددة .‏

وقد نتلمس هاجس التجريب والمغامرة والاستنباط في التجارب الشعرية العربية بشكل جلي كما هو الحال مثلاً عند محمود درويش , محمد عمران , سعدي يوسف , خليل حاوي , يوسف الخال , إلياس لحود , وفايز خضور أكثر مما نتلمسه عند روائيين اقتحموا بدورهم مثل هذه المناخات كالطاهر وطّار , رشيد بو جدرة ,أميل حبيبي , كاتب ياسين , جبرا ابراهيم جبرا , وجمال الغيطاني ..........الخ .‏

للدخول في الإطار النقدي السائد نعتقد جازمين أن المشهد الشعري المعاصر يمكن أن يقدم لنا تفاصيل أكثر دقةً تجعلنا ننطلق من داخل النص الشعري بعيداً عن المدارس النقدية الجاهزة .. تجعلنا ننحازإلى سلطة النص الذي اخترناه ونعتبر ذلك الخضوع فرصة تمنحنا القدرة على المضي دون الوقوع في نمطية الأحكام النقدية الجاهزة .‏

في الشعر تكثر الأسئلة التي تنطلق في كل الاتجاهات ولا تفك حصارها عنا بحيث نجد أنفسنا مضطرين لتقبل قيودها التي تضعها على ألسنتنا .‏

منذ عشرين سنة .. وأنا أعرفه‏

في الأربعينات‏

وبسيط في المقاهي واللغة ..‏

ويحب الناي والبيرة‏

لم يأخذ من الألفاظ الا أبسط‏

الألفاظ‏

سهلا كان كالماء – بسيطا ,‏

كعشاء الفقراء .‏

بمنتهى البساطة . وبهذه الشفافية . يقدم لنا الشاعر محمود درويش الشاعر الشهيد راشد حسين فنتعرف إليه عن كثب ونقف مشدودين فعلا إلى هذا الانسان البسيط كعشاء الفقراء . إن العلاقة بين الفكر واللغة , علاقة التحام لا يمكن فصلها أو تجزئتها , فنحن نعبر عن أفكارنا بنفس اللغة التي نفكر بها وبمعنى أدق ؛ نحن نعبر عن جوعنا , وعن قهرنا بنفس المفردات الموجودة في قاموس الجوع والقهر , والتي نستنبطها منه ؛ ومحمود درويش خبر جيدا كيف يختار اللغة المناسبة للتعبير عن أفكاره , فكان بالفعل رائدا من أهم رواد الشعر العربي المعاصر .‏

في هذا السياق تأتي قصائد الشاعر محمد عمران , فعلى امتداد تجربته الشعرية , يحاول الشاعر أن يتعامل مع موضوعه مع ما يمكن أن نطلق عليه “ اصطلاحا “ بقطف اللغة .. حيث نستقرىء الفكرة التي تشغل بال الشاعر , ليس من خلال الأبجدية اللغوية فقط , وإنما – وهذا واضح على امتداد القصيدة . من خلال المسافات التي لا تعبر عنها اللغة فقط , والتي تشكل حوامل فكرية , وشعورية , هي في حقيقتها خارج إطار القاموس اللغوي . أنت في قصائد الشاعر عمران , أمام الحالة الشعورية الممتدة , على طول التجربة , ولكن في نفس الوقت , المتقطعة , والمتدفقة بشكل نعيشه بكليته , دون أن نستطيع , إحصاء عدد المفردات التي حملته إلينا , فقصيدة الطين والتي تعتبر الملمح الأهم , هي في المحصلة , كما أعتقد إضافة حقيقية . ونقلة نوعية لتجربة الشاعر المعاصر , وهي إذ تجزىء العالم , وتعيده إلى أجزائه الصغيرة , والمتناهية في الدقة , فإنما تفعل ذلك لتقدمه لنا بكليته المطلقة .. كليته , في الروح والجسد .. في المنطق الجدلي , والركض ما وراء الممكن , وما وراء الواقع , وأظنها المنطقة التي يتعمد فيها جنين الشعر , وتأخذ الكلمة الشاعرة مبررات وجودها , من خلالها .‏

ويلتقي الشاعر اللبناني خليل حاوي مع الشاعر عمران على سكة واحدة من التخيل الشعري وبالتالي بناء القصيدة في مناخها المتعدد ؛ إن الأجواء الشعرية عند خليل حاوي , والتي تتكىء علي مناخات نفسية تلتصق بالداخل فيه , إنما هي أجواء لا تقدم أفكاراً في تلافيف القصيدة , بقدر ما تقدم مجموعة لا متناهية من الحالات الشعورية , التي تأخذ في بعض الأحيان ثقل الرحى على الروح المبدعة , وتنطلق في أحيان أخرى بجناحي فراشة , يشدها النور , فتضيء بأجنحتها في مواقده دون أن تعلن اعتراضاً عليه ,‏

ويمكننا القول هنا في هذا المجال , إن الألم بمعناه المبدع هو النواة التي تتمحور حولها تجربة حاوي “ الحياتية “ والإبداعية على السواء .. إنه الألم الخصب , الألم الذي يبدع , والألم الذي هو عنوان الانبعاث الجديد , سواء من خلال الخطاب الشعري , أو من خلال هاجس الشعر ذاته .. ذلك الذي يضع الشاعر أحياناً في مناخات يصعب على الشعر ارتيادها .. مناخات تولد قبل الشعر وتستمر فيه .. إن الألم في تجربة الشاعر , ألم متصل , لا انقطاع فيه , وإن غاب في تفاصيل بعض القصائد , فإنما هو قماشتها الأولى ..‏

لقد سخر الشاعر خليل حاوي كل إمكانيات القصيدة الحديثة , واستفاد من مداراتها , وآفاقها الممكنة في مسيرته الشعرية , التي يشكل الهاجس مفتاحها الأساسي .. حيث الواقع عفن , والظروف التي تلف الشاعر , ويتفاعل صداها داخله أكثر قسوة من احتمال القلب .. ولذا , كان طبيعياً جداً أن يحاول الشاعر خلق صيغ , وعلاقات جديدة مع مناخه الذي يحيط به .. وكان طبيعياً - أيضاً – لشاعر أصيل مثله , أن يستفيد كل الاستفادة من الرمز حيث يهرب نفسه فيه , ويعبر عن موقفه من العالم المحيط به . من خلاله وربما يتجلى ذلك في قصيدته “ السندباد في رحلته الثامنة “ .. فالوطن هنا , هو الدار الحنونة :‏

وكنت خير الدار‏

في دوخة البحار‏

وحيث مجموعة الظروف التي أحاطت به قبل الرحلة .. أو التي هيأت لها .. فيها من المبررات ما يمنحه الجرأة لأن يخلع قدميه من صمغ ترابها , معلناً رحلته “ الثامنة “ .. تلك التي تجيء بعد سبع رحلات . تتويجاً لعلاقة إنساننا العربي المعاصر مع وطنه , وخاصة إذا كان هذا الإنسان فناناً في طبعه , يفرد إلى جانب رئته المثقلة بالسموم , ذاكرة خاصة تتسع لإنحناءات الألوان الدافئة , والأصدقاء القدامى . إنه التناقض الذي لا تجمعه سوى القصيدة . فكل شيء ممكن وكل شيء مستحيل .‏

طفلاً جرت في دمه الغازات والسموم‏

وانطبعت في صدره الرسوم‏

وكنت فيه والصحاب العتاق‏

نرفه اللؤم , نحلي طعمه بالنفاق ..‏

وباستمرار في لحظة الكتابة وكما هو الحال عند الشاعر اللبناني إلياس لحود تأخذ الأشياء مفاهيمها من جديد , تصبح مشاعر الشاعر خارج المحدودية , مشرعة , ويصبح الوطن الكبير دفقة في دم المبدع , وهنا تستمد الكلمة القدرة لأن تحاصر الآخرين بسياج صدقها . لنتابع معاً هذا المشهد الذي يبدأ , وينمو , ثم فجأة تلتقطه اللغة , فيصبح صورة على جدار القصيدة لكنه – صورة لحم ودم و أعصاب .‏

رأى شكله في بقايا القرى‏

رأى ثوبه عالقاً في الجنازة‏

تجرع أشكاله مستقيماً‏

لتحسبه أحد الأعمدة .‏

في هذه اللحظات يحاول المبدع الإستفادة من قدرة اللغة على التناسل – المضموني – بحيث تأخذ الكلمة – الواحدة المحددة مجموعة مدلولات , ويأخذ مضمونها أشكالاً متعددة حسب موقعها في الجملة . يقول :‏

الأحد يلبس دفئاً رمادياً‏

الصباح لبس لوناً رمادياً‏

المدينة تفصِّل الرمادي أثواباً داخلية‏

الرمادي يلبس الغرفة قبعات الربيع رمادية .‏

استلم «الملحق» هذا الموضوع من الزميل الراحل قبل وفاته بأيام‏

تعليقات الزوار

cafematinalak |  cafematinalak@gmail.com | 08/02/2010 17:11

أجدد قلبي إليك..‏ دمي راقص في الخلايا العِتَاق‏ دمي عاشق للهوى المستحيل‏ فأنتِ امتدادي‏ وأنت التجلي بدربي الطويل‏ وأنت اختصار الهوى والعِناقْ.‏ خيري عبد ربه

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية