تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


وجوه إدوارد سعيد

ملحق ثقافي
11/8/2009م
ابراهيم محمود

كيف يمكن النظر في كتابات الراحل ادوارد سعيد”1نوفمبر1935-25سبتمبر12003”؟ ثمة مسافة هائلة تفصل القارئ العادي والمقتدي بأفق منهجية ثابتة،

عما اعتمده متعدد الكتابات: المواهب ادوارد سعيد فكرياً وبحثياً!إن تعريفه بنفسه على أنه المثقف الهاوي، تمييزاً عن سواه من المثقفين، ضرب من ضروب التأويل مجازياً، من الاستعارة المركَّبة تلك التي تشير إلى أن معرفة الحقيقة لا يوقَّت لها إلا في الظلام، ربما استناداً على مفهوم بروميثيوسي وميثولوجيا سرقة نار الآلهة، والرجوع إلى مدوَّنة المغامر المتفرّد تاريخياً.‏

ثمة حديث واضح السمات عن تعددية وجوهه! وما اعتباره: المفكر والناقد والباحث والسياسي والانتروبولوجي والفنان الموسيقي والمؤرخ، وكلها تسميات صحيحة لحظة التعرض لأعماله( مثلاً، عندما نتوقف عند عمله الأول” جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية1966”، وعمله الآخر” الاستشراق 1978”، و” متتاليات موسيقية1996”، و” صور المثقف1994،و” أوسلو: سلام بلا أرض1995”..الخ)، إلا تأكيداً على تقدم، لكن ذلك لا يعدو أن تكون اختياراته في الكتابة جرَّاء موقفه من انتمائه الزمكاني، وهو في تعريفه المركَّب بنفسه يضعنا في مواجهة، تصعّب علينا أي قراءة تقليدية لما أنجزه بحثياً( لقد أحسست، منذ الأطوار الأبكر من وعيي، أنني في نزاع مع البيئة التي أنتمي إليها. أقصد القول إنني كنت في مصر، ولكنني لست مصرياً، وأنا عربي ولكني ولست مسلماً، وأنا مسيحي ولكني بروتستانتي ولست كاثوليكياً، وأنا ناطق بالإنكليزية ولكني لست إنكليزياً، وأنا أمريكي ولم يسبق لي أن ذهبت إلى أمريكا- انظر مجلة” الكرمل” العدد78-2004، ص104)..‏

قول كان/ صار بمثابة اللغز الذي شغل أذهان المعنيين بكتاباته كثيراً، وللتركيز على لاحدوديته، واعتباره هاوياً كمثقف وليس كمحترف. إنه أشبه بالفيلسوف الرحالة الذي نادى به جيل دولوز، حيث الاحتراف عند سعيد مكاني أكثر مما يجب وتأطيري لصاحبه خلاف الهاوي الذي يطوي الجهات وراءه في كل حين، وهو يقرأ يكتب( المحترف يدَّعي الاستقلال على أساس الحرفة ويتظاهر بالموضوعية، في حين أن الهاوي لا يثار بالمكافآت ولا بإنجاز سريع لحظة عمل بل بالارتباط الملتزم بأفكار وقيم في الجو العام- كتاب ادوارد سعيد: الآلهة التي تفشل دائماً، ترجمة: حسام الدين خضور، دار التكوين، دمشق،2003، ص127، والكتاب ذاته هو” صور المثقف”).‏

هذا التحديد اللامحدَّد، ألهم الذين آثروا النظر فيما جاء به الراحل استجابة لأهوائهم وتصوراتهم، ليكونوا داخل أمكنتهم المتخيَّلة، داخل تاريخهم الذي اعتادوه خلاف مبدع( خارج المكان): المكاني بامتياز!‏

ثمة خيانة لافتة لهذا المتعدد الوجوه فيما نطق به وهو واحد، من قبل رهط الكتاب والمثقفين الذين أمعنوا في تقليبه على وجوهه، إنما ما اعتبروه وجوهاً أصلانية له وهو في ثرائه المعرفي وصلابته، إذ أنهم لم يغادروا في المجال نطاق التقريظ والشرح الممل لقائمة الأفكار التي اعتبرت مفاصل حركية لأهم كتبه وفق مقاييس مؤدلجة عربياً، كما في ( الاستشراق) و( الثقافة والامبريالية-1993)، وكان سعيد نفسه معنياً بشكل ما أو بآخر، بالكثير مما كتِب عنه، وربما مسئولاً عن هذه القراءات التقريظية والدعائية لما تميّز به موقفاً وكتابة!‏

لم يقدَّم ادوارد سعيد عربياً، إلا ما كان يتوخى منه، باعتباره( فارس القبيلة) المستحدَث، وهو خارجها، والذين تتبَّعوا أخباره، كانوا يعدِون أنفسهم وقراءهم بهذا النزال المتمثّل فيه خلل الجبهات البعيدة، إلى ما وراء البحار!‏

ادوارد سعيد كان ابن مرحلته وتاريخه، وهذا ما يمكنه إفادتنا كثيراً، ونحن نبحث عن صورة الأب في كتاباته، أي عن صلته بأبيه( العائلة التي نشأت في كنفها كانت مزيجاً عجيباً من العناصر العربية والمسيحية والانكليزية، نظراً لأن والدي خدم في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى واكتسب الجنسية الأمريكية، قبل أن يعود إلى فلسطين..- مجلة” الكرمل- ع:78-ص103)، ماذا يعني” مزيجه العجيب”، وانخراط أبيه في الجيش الأمريكي دلالياً؟ أهو مديح أم نقد، أم تباه ٍضمني بما تحقَّق له؟ فدون ذلك ربما ما كان يبصر أمريكا، ما كان يعرَف بـ( صاحب الاستشراق) مثلاً. لقد أخلص لهذا الانتماء” العجيب”، لأمريكيته حتى وهو في أوج نقده لأمريكا في كتبه المختلفة ذات الشأن السجالي: السياسي( تغطية الإسلام-1986) مثلاً، إذ لو كان في مكان آخر، لما برز بالطريقة التي عرِف بها لاحقاً، وهذا يعمّق أهمية المكان ومنزلقه المفهومي بالنسبة للكاتب قبل سواه.‏

وفي كتاباته نجد هذا المزيج العجيب بالذات: بين تأكيده على أنه الهاوي وهو المعني بالمستجدات في بلده الأصلي: فلسطين، وما جرى عربياً، وفي معمعان المواجهة السياسية عندما كان يعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع عرفات بالذات وهو يكتب خطاباته ويراهن عليه حتى لحظة أوسلو ليتخذ مساراً معاكساً له، لعله أراد أن يكون زعيماً ما من الخارج، أن يكون له أتباع دون وجود تنظيم يسميهم وهو يعنى بهم.‏

وأن يكون مأخوذاً بميشيل فوكو الفرنسي وتصوره للسلطة والمعرفة في ( الاستشراق)، ومنقلباً عليه بصورة ما فيما بعد، وكأن شيئاً لم يكن، أن يقتدي بمقولة “ فيكو1686-1744” عن دور المرء في صناعة تاريخه، ومفهوم” الدنيوة” كونه ناقداً علمانياً كما كان يسمّي نفسه، دون أي اعتبار لموقف فيكو من الكنيسة والثقافة في عصره، كما لو أن الذي أتى به سعيد خلا من الميتافيزيقي، وليقرَأ ميكانيكياً من قبل مداحيه من الكتاب العرب دون مراعاة الفارق الزمني والثقافي( أستحضر هنا صورة فيصل دراج، فيما كتب عنه من باب التقريظ والاختزال من منظور” صور المثقف” ، كما ورد ذلك في مجلة” الكرمل” السالفة الذكر، وهو يكرر كثيراً الفارق بين المثقف الهاوي والمحترف، وهي قراءة تفتقد الدقة التاريخية لحظة المقارنة بين كيفية تتبع” صور مثقفه” في المقال الطويل، و”صور مثقف” سعيد)، وحيث إن الأخير كان يلح على ضرورة تقديم المختلف، وهذا لم يتحقق من موقع المريدية( خلاف مدرسة التابع هندياً) وهذه مفارقة خانقة، وربما يعني ذلك أن وجود متعدد المواهب هذا كان نعمة للذين تلمسوا فيه المعطفَ، حيث يمكنهم التحرك داخله، وكأنه معطفهم.‏

وسعيد يستحضر أسماء دون أخرى، وهو يؤكد أهميتها كما في حال: أدونيس، كمال أبو ديب- منيف- إلياس خوري...الخ، نظراً لجانبها النضالي الخاص، أي تنويريتها. لماذا لم يذكَر” يذكر فقط” في السياق أسماء لها حضورها وبشكل لافت، من مثل: أركون- جورج طرابيشي- عزيز العظمة..الخ؟‏

ثمة حدود معلومة إلى درجة المتراسية لادوارد سعيد كان يربض داخلها رغم الفضاء الواسع لأطروحاته وطبيعة كتاباته، والذين تابعوه عربياً مثّلوا الوجه المقابل له، وهو في تعميميته لأحكام دون أخرى، في استثماره لاسم دون آخر وبحسب المستجد الزمني معتقدياً( فوكو- غرامشي- فيكو- اورباخ- ادورنو..الخ)، وما ترجم له أبرز هذا المنحى مأسوياً، ربما ترجمان أحوال وجوهه المركَّبة والمتداولة بشكل سيئ عربياً( كيف يفهَم سعيد دون كتابه الأول عن جوزيف كونراد، وفيما بعد: بدايات1975؟)، كيف يفهَم عدم ترجمة كتابه( مسألة فلسطين-1979) إلى العربية، وهو نفسه من اشتكى من ذلك؟ أليس لأن الحراك الثقافي العربي وعلى أعلى مستوى كان يختار من سعيد، ما يمكن تسويقه وتصريفه هنا وهناك أكثر، فلا تكون الشكوى وحدها كافية. لقد منحه كتابه( الاستشراق) لقب فارس من الدرجة الأولى، إنما دونما خلع قناعه إزاء كتبه الأخرى، وما كان يمكن أن يعرَف به كمنتم ٍ إلى أكثر من ثقافة هجينة( يشدد على فعل الهجنة كثيراً في كتاباته( الثقافة والامبريالية) مثلاً، وليس مفهوم” الطباق” الموسيقي، سوى أحد أبعاد حالة الهجنة هذه على صعيد عالمي)، ولكن ذلك لا يعني المساواة بين العناصر التي كوَّنت ثقافته. نحن إزاء جوهرانية الموضوع، كما في حال مفاهيم مثل: الدنيوة- الطباق- السلطة- التمثيل...الخ)، وهي شديدة الإشكالية في كتاباته العربية المترجمة إلى العربية، وأحد وجوه إشكاليتها أسلوب الكتابة ذاته، وقد سمح ذلك، وما زال يسمح للذين يلحّون على خاصية المطابقة أو التماهي ومن باب التقويل عربياً، في أن يعرّفوا ادوارد سعيد كما هو مجاز لهم رغباتياً، وليس في التعريف البورخيسي نصف الكرنفالي الذي عنى به نفسه آنفاً، وكأن الحديث عنه ليس أكثر من قناع يقبل التكيف مع مجمل الوجوه المحتمية به، ولعل ذلك يفصح عن غربة ادوارد سعيد المزدوجة حيث عاش، وحيث فكَّر، وحيث ارتحل بوجوهه الثرية التي لم تعاين بعد، كما يجب وفي حدّها الأدنى!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية