تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عودة الوعي في التقرير الوطني للتنمية البشرية... ليس المهم أن نعترف بأخطاء نظامنا التعليمي بل أن نسعى نحو كفاءة أفضل في خطط واقعية تبتعد عن التجريب

مجتمع
الأحد 24/7/2005م
ملك خدام

كنت تلميذا ً فاشلاً في مدارسنا, ولكني نجحت في المدارس البريطانية...ولا أعلم إن كان العيب فيّ, أم في أسلوب معلمي الذي كان يضرب أربع مساطر كل من لم يكتب وظيفة الرياضيات..

بهذه العفوية لخص عبد الله الدردري, نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية, رئيس هيئة تخطيط الدولة, مشكلة نظامنا التربوي, وتخلفه عن اللحاق بالركب في عالم يتقدم ويتفجر بالمعرفة والتقانة, إلى الحد الذي تراجع فيه دور المعلم النمطي التقليدي - كملقن للمعرفة- وجعل التلميذ محور العملية التعليمية - التعلمية, في مشاركة تفاعلية مع أستاذ يعلمه- كيف يتعلم ويستقصي ويبحث أكثر مما يقدمه له من معرفة.‏

فلم يعد التعلم من أجل توسيع الادراك المعرفي هدفا بحد ذاته في ظل متغيرات القرن التربوية بقدر ما أصبح وسيلة لهدف أكثر شمولية وأهمية في نظام تعليمي قادم يعتمد في تخطيطه على مبدأ ( وفرة المعلومات) والمنهج مفتوح الطرف ومن المفيد التذكير في هذا الصدد أن نظامنا التعليمي ( المدرسي) قد قام منذ بداياته الأولى على أساس مبدأ ( ندرة المعلومات) حيث كان يتم نقل المعرفة من المدرس إلى الطالب بفرضية أن المدرس (يعرف) والطالب ( لايعرف) وأن العملية التعليمية تمحورت عندئذ حول المدرس ولاتزال وما على الطالب إلا أن يعمل على حفظ وترديد مقررات دراسية سرعان ما ينسى غالبها مع تقادم الزمن.‏

وقد أفرز هذا الواقع أنظمة امتحانات تقليدية تعمل على التحقق من مدى تمكن الطالب من تضييق الفجوة بين مخزونه المعرفي وبين المعرفة التي قدمتها له المؤسسة التعليمية.‏

غير أن الزيادة المتسارعة في حجم المعرفة المتوافرة واتساع وتشعب قنواتها في المجتمع ووصولها إلى الجميع قد أدخل العالم في عصر ( وفرة المعلومات) بمعنى: أن المصادر المعرفية للطالب قد تجاوزت المقرر الدراسي وبالنتيجة فقد أصبح لدينا مدرس يعرف وطالب يعرف كذلك, ما بدأ يؤثر تأثيرا جذريا في طبيعة التفاعل المدرسي وفي العملية التعليمية التي أصبحت متمحورة حول الطالب, الأمر الذي دعا إلى انحسار دور المدرس في تسهيل حصول الطالب على المعرفة من خلال التبصير بالأدوات التي تبحث وتعالج المعرفة بدلا من الاقتصار على ما يوفره الكتاب المدرسي من معارف, ويتحدد الدور الجديد للمدرس ايضا في بناء قدرات الطلبة من خلال تطوير الحس والقرار النقدي والقدرة على حل المشكلات او بتعبير آخر مساعدة الطالب في أن يتعلم ( كيف يتعلم) وكيف يفسر ما يدور حوله? وكيف ينظم ويحلل ويستخدم المعلومات ويتمكن من استخراجها واسترجاعها ومعالجتها والحكم عليها ومعرفة تقنياتها والتمثل بثقافتها التي تساعده على الاستمرار في عملية التعلم مدى الحياة.‏

إن هذا باختصار بعض ما ركز عليه التقرير الوطني الثاني للتنمية البشرية الذي أشهر مؤخرا ( في 20/7/2005) تحت عنوان: ( التعليم والتنمية البشرية نحو كفاءة أفضل).‏

وقد أنجز بالتنسيق والتعاون ما بين هيئة تخطيط الدولة وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي و ناقش بفعالية في عودة للوعي سبل إصلاح نظامنا التعليمي وجعله مواكبا للانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعي حيث شخص هذا التقرير بأسلوب نقدي بناء علل ومشكلات هذا النظام وأشار بمنتهى الجرأة والشفافية إلى افتقاره للكفاءة والعدالة مستندا على مؤشرات الأرقام المنشورة جانبا والتي وصفها السيد وزير التربية الدكتور علي سعد ( بالأرقام الرمادية) نظرا لما تحمله من دلالات خطيرة على تدهور الكفاءة الداخلية والخارجية للنظام التعليمي في سورية وإلى ضعف العلاقة مع متطلبات سوق العمل ما يدعو في النتيجة إلى اصلاح التعليم في إطار أوسع للاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وإلى مراعاة قضايا التنوع الاجتماعي وتمكين المرأة وايلاء أهمية خاصة للعدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص التعليمية والحد من الفقر.‏

ومن هنا يجدر القول: أنه ليس المهم أن نعترف بأخطاء نظامنا التعليمي وإنما الفضيلة أن نسعى في التراجع عنه نحو كفاءة أفضل في خطط مستقبلية واقعية متوازنة لا تعتمد المحاكاة او التقليد او التجريب لأن الهدر والفاقد في العملية التعليمية حصرا يكون بالبشر, وقد بات من الأجدى الانطلاق في استراتيجيتنا التنموية الوطنية بالخطط المستقبلية القادمة من تكريس معالم وخطوات الدور الجديد للدولة في العملية التنموية عموما والنهضة بقطاعنا التعليمي خصوصا كميسر ومحفز وراع مشارك وليس وصائيا منفردا في ساحة التربية والتعليم...‏

فنحن ندرك بواقعية أن الانفاق على قطاع التعليم بات مكلفا وباهظا للغاية في عصر تفجر المعرفة وتكنولوجيا المعلوماتية ووسائل الاتصال ومن المجحف أن نترك الدولة تنوء وحدها بحمله على عاتقها الأمر الذي سيضعها في النتيجة أمام خيارات متعددة في مراجعة للذات, فراحت تبحث أمام تردي واقع نظامنا التعليمي عن شريك يخفف عن كاهلها هذا العبء الثقيل اذ بدأت تقوم منطلقات استراتيجيتنا التنموية التي عبر عنها مشروع الخطة الخمسية العاشرة على الأسس والمبادىء والمفاهيم التشاركية في عملية التنمية التي يجسدها مفهوم (الشراكة التنموية الفاعلة) ما بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي وبناء البيئة المستدامة وإدماج المرأة في سياسات التنمية وأصبح التعليم يشكل محورا أساسيا قائما بحد ذاته في هذه المنطلقات والمبادىء والمفاهيم بالنظر إلى العلاقة العضوية الوثيقة ما بين التعليم وبناء رأس المال البشري في عصر دخول البشرية في مرحلة مجتمع المعرفة وتحول مفهوم العملية التعليمية من مفهومها التقليدي إلى مفهوم العملية التعلمية - التعلمية,و التعلم مدى الحياة.‏

يقول السيد الدردري: لقد أصبح الرأسمال البشري يمثل أساس القيمة المضافة اليوم في شتى منتجات الحياة الإنسانية عموما وفي المنتجات العلمية والاقتصادية خصوصا في عصر يتميز بالتشابك والاندماج والتكاملات الاقتصادية وبات ممكنا وصفه بحق بعصر التنافسية.‏

ويتابع القول: إننا لن نتمكن من مواجهة تحديات التنافسية وتحويلها إلى فرص وخيارات ازدهار اذا لم نتمكن من بناء رأس مالنا البشري على أساس التكامل ما بين العدالة والكفاءة او على أساس ما يطرحه التقرير الوطني للتنمية البشرية في صيغة التعليم والتميز للجميع ومن هنا فإن مشروع الخطة الخمسية العاشرة تبنى زيادة الانفاق على التعليم العام جنبا إلى جنب مع سياسات تنويع وتعدد أشكال المشاركة والمساهمة فيه.‏

وأضاف يقول: إن الحكومة تنظر إلى التقرير الوطني الثاني للتنمية البشرية الذي أشهر مؤخرا تحت عنوان ( التعليم والتنمية البشرية نحو كفاءة أفضل) تنظر اليه باهتمام خاص وتضعه منذ الآن في إطار مرجعياتها الأساسية في الخطط والسياسات التنموية جنبا إلى جنب مع التقرير المرموق الذي تم إشهاره من قبل عن مسح دخل ونفقات الأسرة ومع ماحدده البرنامج الوطني لأهداف الألفية للتنمية البشرية و الذي أدى إلى ايجاد لجنة وطنية حكومية للتنمية البشرية تعبر عن انفتاح مجتمعنا على العالم وعن إدماج أهدافه وغاياته المبينة في الأهداف التنموية للألفية في صلب توجهاتنا وسياساتنا التنموية.‏

والسؤال الذي يجدر طرحه ختاما في ضوء ما ذكره الدردري هل تكفي شجاعة الاعتراف بنواقص نظامنا التعليمي في التعليم الأساسي عامة والتعليم الفني والمهني خاصة للنهوض بهذا التعليم وتجاوز هذ النواقص?!‏

وإذا كنا قد تمكنا بعد إطلاق التقرير الوطني للتنمية الشاملة من تشخيص الداء والعلل..فماذا عن الدواء والأمل?!..‏

باختصار شديد لابد من التركيز في هذه العجالة على ما ذهب اليه المفكر التربوي السوري عبد الله عبد الدائم في تصوره المستقبلي لما ينبغي أن تكون عليه التربية في القرن الحادي والعشرين.‏

إذ يقول: منطلقنا الأساسي في تحديث التربية وتجديدها في بلادنا وفي سائر بلدان العالم من أجل مستقبل لا تزال معالمه غير مستبينة هو أن تغير المعرفة في عصرنا بتأثير الثورات الكبرى التي انطلقت فيه (الثورة في عالم الاتصال والمعلومات وفي عالم الاقتصاد والمال وفي عالم البيولوجيا والمورثات وفي ميدان العولمة وسواها) ينبغي أن تقابله تربية من أجل التغير تمكن الفرد أينما كان من مواجهة أي حدث طارىء او بتعبير آخر إن عناية التربية الأساسية ينبغي أن تتجلى في تكوين إنسان قادر على أن يعلم نفسه بنفسه دوما وأبدا ويملك القدرة على - التعلم الذاتي- المستمر ذلك أن الأمي في القرن الحادي والعشرين لن يكون على حد قول توفلر A.TOFFLER في كتابه الأخير ( تحول السلطة): ذلك الذي لا يعرف القراءة بل ذلك الذي لا يعرف أن يتعلم وأن ينسى ما تعلم أن يتعلم من جديد...‏

وهذا يعني أشياء كثيرة أهمها:‏

1- مرونة النظام التربوي مرونة تستجيب لحاجات التغير.‏

2- بناء القدرات لدى المتعلم على التعلم الذاتي.‏

3- ربط التربية ربطا عضويا بحاجات العمالة المتغيرة والمتجددة ( عن طريق الأخذ والعطاء المتكاملين والمتبادلين بين نظام التربية وبين حاجات التنمية الشاملة).‏

4- الأخذ بالتربية المستمرة ( طوال العمر) من المهد إلى اللحد .‏

5- ربط التربية بالتراث الثقافي العربي والعلمي والاهتمام بتحديد التراث العربي من خلال منطلقاته ومن خلال تفاعله مع التراث الثقافي العالمي.‏

6- تكوين المواقف والاتجاهات والقيم الإنسانية التي يستلزمها عصر العلم والثقافة وعلى أساسها امتلاك روح المسؤولية والقدرة على الحوار ( على حد قول المفكرين الالمانيين هابرماس Habermas وجوناس jonas) ومن هذه المواقف:‏

تكوين روح النقد بل روح التساؤل والشك والقدرة على العمل الجماعي المشترك والقدرة على الابتكار وشحذ الخيال المبدع وغير ذلك كثير.‏

من جهته يؤكد السيد وزير التعليم العالي الدكتور هاني مرتضى آخيرا: إن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة تضع نظمنا التعليمية أمام تحد آخر لا يقل أهمية عن باقي التحديات وهو تحدي استحداث واكتساب ثقافة الابتكار في الجامعات وهذا ما يحتم علينا تغيير طبيعة الخريجين وتسليحهم بروح ريادة الاعمال والقدرة على خلق فرص العمل والكفاءة على تأسيس شركاتهم الخاصة القابلة للتطور المستمر ولتحقيق ذلك يقول:‏

يجب أن تتمحور إدارة التغيير حول الأهداف التربوية التالية:‏

- تنمية التفكير والتحليل / التركيبي.‏

- تنمية القدرة على البحث والتطوير.‏

- تنمية القدرة على تقديم الحلول.‏

وجملة القول : في ما يذهب اليه عبد الدائم إن التربية المرجوة للقرن الحادي والعشرين هي تلك التي تقيم في صلب كيانها أساليب تطويرها وتجديدها وآلية تحركها الدائم وتطلعها إلى مزيد من الإبداع.‏

هي مجرد تشخيصات وتحليلات وتوصيات وضعها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة تخطيط الدولة في تقرير مفتوح لن ينتهي فور إتمام عملية إشهاره - كما يؤكد السيد الدردري - بل سيكون مطروحا لأوسع نقاش مستمر حول ما جاء فيه مع المواطنين عموما وصانعي القرار خصوصا والعاملين في الحقل التربوي والاعلامي وفي القطاع الخاص والمجتمع الأهلي والمعنيين بالشأن العام من أجل الاستفادة والمراجعة والنقد والاضافة.‏

فهل هناك من يزيد?!...‏

إن طموح التقرير كما علمنا ولمسنا من خلال المؤتمر الصحفي الذي اعقبه هو إثارة أسئلة ومناقشات مفتوحة معمقة تصب في المركزية وهي حشد كافة الجهود والهمم للوصول إلى كفاءة أفضل ..‏

( فتعليم أفضل يعني تنمية إنسانية أفضل).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية