تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


القطاعات الاقتصادية القاطرة

اقتصاديات
الثلاثاء 13-4-2010م
سمير سعيفان

ثمة مسألة أساسية في سورية كما في بلدان العالم النامية أم المتقدمة تكاد تغيب عن الرؤية الاستراتيجية والخطط الخمسية والسياسات الاقتصادية عموماً وهي تحديد القطاعات الاقتصادية القاطرة في الاقتصاد السوري. ففي جميع البلدان

يوجد مثل هذه القطاعات الاقتصادية القاطرة. وهي قطاعات محددة ومحدودة لها وزنها وأهميتها وتملك شروطاً مناسبة تجعلها تساهم بقوة أكبر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية من غيرها من القطاعات فتحقق التراكم وتخلق فرص العمل وتحرض قطاعات اقتصادية أخرى. لذا تسمى بـ «القطاعات الاقتصادية القاطرة» وتتغير هذه القطاعات بين اقتصاد وآخر كما أنها تتبدل بين فترة وأخرى في نفس البلاد. كما أنها لا تتساوى في الأدوار والأهمية وبالتالي في الرعاية.‏

ولأن الآثار الإيجابية أو السلبية الكبيرة التي تصيب القطاعات القاطرة لها وزن وأهمية وتأثير أكبر في قطاعات أخرى وفي الاقتصاد الوطني ككل، فإن مبادئ رسم الاستراتيجيات والسياسات الاقتصادية والتخطيط السليم والتنمية الناجحة تقضي بتحديد هذه القطاعات وتحديد الدور الذي تلعبه وتوجيه برامج خاصة لرعايتها بأشكال مختلفة وتركيز الجهود لأن التركيز يثمر بدلاً من بعثرتها فتضيع. فمن غير المفيد تحديد مزايا عامة فقط تستفيد منها جميع القطاعات على السواء. هذا كان أحد دروس القانون 10 لعام 1991.‏

تحدد القطاعات الاقتصادية القاطرة من خلال دراسات وتحليل للقطاعات الاقتصادية الفرعية وللصناعات السلعية والخدمات واحدة بواحدة، تعتمد مجموعة معايير مثل حجم القطاع في الاقتصاد الوطني والقيم المضافة التي يخلقها ومستوى تقدمه العلمي والتقني وعدد فرص العمل التي يخلقها و الخبرات التاريخية المحلية (عراقة) وترابطه بقطاعات أخرى، كأن يستجر مدخلاته السلعية والخدمية من قطاعات محلية أخرى وأن تكون مخرجاته مدخلات لقطاعات أخرى وقيمة صادراته ومساهمته في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وآفاقه المستقبلية وغيرها.‏

من الأمثلة الواضحة على القطاعات القاطرة هي الدور الذي يلعبه قطاع النفط في البلدان النفطية وكذلك في روسيا اليوم. أو الدور الذي يلعبه قطاع المناجم في بلدان مثل جنوب أفريقيا واستراليا، رغم الفارق بين الاعتماد الاتكالي للدول النفطية على قطاعها النفطي، وبين تعاطي جنوب أفريقيا وأستراليا مع قطاعها المنجمي، بحيث جعلته واحداً من قطاعات أخرى قوية قاطرة. ومن أمثلة الأمس على القطاعات القاطرة الدور الذي لعبته صناعات النسيج في إنكلترا حين صعودها والدور الذي تلعبه صناعة الآلات والمعدات والصناعات الكيميائية والسيارات في ألمانيا اليوم والدور الذي تلعبه الزراعة في هولندا و القطاع المالي في سويسرا والصناعات الالكترونية والسيارات في كوريا والصناعات الدوائية في عدد من البلدان المتقدمة وقطاع السياحة في تونس والأردن. واليوم تركز البلدان المتقدمة على قطاعات البحث العلمي ومنتجاته وعلى صناعات المكنات والمعدات الثقيلة والمواد الكيميائية الفعالة والطيران والفضاء وصناعات الأسلحة وقطاعات الملكية الفكرية عموماً وما شابهها كقطاعات قاطرة بقيمها المضافة العالية وتترك للبلدان النامية الصناعات الخفيفة كثيفة العمالة والعمليات التجميعية أو الأخيرة في سلسلة القيم المضافة لإنتاج السلعة. ولكن هذا لا يعني أن تبقى البلدان النامية أسيرة لهذا القدر. فقد استخدمت اليابان قطاع الصناعات الخفيفة بعد الحرب العالمية الثانية كقطاعات قاطرة إلى جانب اهتمامها بالقطاعات المتقدمة بما مكنها من الانتقال إلى صناعات أكثر أهمية فيما بعد ولتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي. وقد تبعهتا الصين في هذا النهج والصين تحضر نفسها للعب دور منافس لدور الولايات المتحدة. ومن الأمثلة الناجحة اليوم على القطاعات القاطرة صناعة البرمجيات وخدماتها في الهند. هنا نتساءل: هل حددت السياسات الاقتصادية والخطط الخمسية القطاعات القاطرة في الاقتصاد السوري وخصتها ببرامج رعاية خاصة؟‏

الحقيقة أنني لم أر في الخطط الخمسية أو في أية وثيقة رسمية او حتى غير رسمية تحديداً لهذه القطاعات القاطرة. بل إن هذا المصطلح غير متداول في الوثائق الحكومية. وهذا ما يجب تداركه بحسب ما نعتقد.‏

في هذه المقالة الصغيرة لا فسحة للدراسة والتحليل والتحديد، ولكن يمكن أن نشير فقط لعدد من القطاعات التي يمكن أن تكون مرشحة للدراسة والتحليل لتفحص مدى كونها قطاعات قاطرة للاقتصاد السوري وبالتالي تطوير الاستراتيجية وبرنامج الرعاية الخاصين بكل منها. وهذه مهمة الوزارات كلٍّ في قطاعه ومهمة هيئة تخطيط الدولة. ويمكن لجمعية العلوم الاقتصادية وجمعية مستشاري الإدارة أن تساهما في هذا الجهد الهام.‏

لعل القطن وما يقوم عليه من صناعات نسيجية هو القطاع الأول الذي نتذكره كقطاع مرشح ليكون من القطاعات الاقتصادية القاطرة. فقد بينت عدة دراسات أنه يمكن أن يخلق قيماً مضافةً أكبر بكثير مما هو الآن قد تعادل ما فقدناه من النفط. ويخلق فرص عمل إضافية كثيرة عبر تصنيعه كاملاً غزلاً ونسجاً وتصنيعاً كملابس جاهزة وتصديرها بدلاً من تصدير جزء كبير منه خاماً أو على شكل غزول كما جرى ويجري منذ عقود. ووضع استراتيجية خاصة لتحقيق هذا الهدف تبدأ من زراعة القطن بما في ذلك تشجيع زراعة القطن الملون وتنتهي بتشجيع ورعاية صادرات الملبوسات والمنسوجات القطنية.‏

وفي الزراعة النباتية يمكن دراسة زراعات الخضار والفواكه والزيتون والصناعات التي تقوم عليها مثل صناعات الكونسروة والمربيات وغيرها لتحديد أية زراعات وأية منتجات ووضع استراتيجية وبرنامج يرعاها من الزراعة فالتصنيع فالتصدير. ومن الضروري دراسة قطاعات تبدو أنها مرشحة لتلعب دوراً أكبر مثل صناعات الحلويات العربية والبرازق وحتى الشوكولاته التي بدأت تحقق رواجاً عربياً وعالمياً.‏

في الصناعة التحويلية، وبعد صناعة المنسوجات والملبوسات التي تعاني من ضغوط المستوردات التركية محلياً ومن تراجع صادراته بسبب غياب استراتيجية وبرنامج رعاية خاصة، تأتي صناعة المنظفات وصناعة الأدوية قد شكلتا قصة نجاح في السنوات الأخيرة يمكن البناء عليها ليكونا من بين القطاعات القاطرة. وكان لصناعة الموبيليا أن تلعب مثل هذا الدور لتصدر إلى البلدان العربية ولكن لم يوجد أي برنامج لرعايتها والآن تتعرض لضغوط كبيرة من المنتجات التركية.‏

والسياحة يمكن أن تكون اليوم من القطاعات القاطرة، وخاصة السياحة الثقافية والسياحة الدينية. فسورية متحف للتاريخ وأرض مقدسة بالنسبة للديانتين الكبريين المسيحية والإسلامية التي يقدر أتباعهما بنحو ثلاثة مليارات نسمة. وقد لقي هذا القطاع بعض التشجيع المبكر. ولكنه لم يرق إلى مستوى الاستراتيجية وبرنامج الرعاية المطلوبين و افتقد بخاصة للاستراتيجية التي تجلب السائحين إلى سورية. ومؤخراً بدأت الوزارة تتحرك على نحو محدود في هذا الاتجاه. وثمة عدد من القطاعات الجديدة التي يمكن لها أن تنمو وأن تلعب دوراً أكبر بكثير، وهي تتمتع بخصائص تناسب قوة العمل السورية مثل صناعة البرمجيات والتصاميم الهندسية. فهذه الصناعات تحتاج لرأس مال قليل ولكن لقوة عمل مدربة قادرة على العمل الدؤوب والصبر على العمل وضغوطه. ويوجد حاجة لبرنامج رعاية لهذه الصناعات وخلق مقاولات بالباطن وشراكات مع شركات كبيرة أوروبية.‏

وكان أمام قطاع المقاولات هو الآخر فرصة كبيرة في السبعينات والثمانينات وخاصة للعمل في البلدان العربية النفطية التي كانت ساحة مفتوجة شرهة ولكنها ضاعت لأسباب عدة وقد يكون العراق اليوم مرشحاً لأن يكون فرصة جديدة تحتاج لاستراتيجية وبرنامج رعاية فهو قطاع كثيف العمالة كما أنه يتطلب منتجات تصنع محلياً.‏

إضافة لدرس المقاولات، ثمة دروس أخرى علينا تذكرها والاستفادة منها. فقد ضاعت فرصة كبيرة منذ السبعينات عندما بدأت أوروبا تتخلى عن العديد من الصناعات التحويلية وبدأت بتصديرها لبلدان العالم الثالث، فقد كان أمام سورية فرصة لتنمية عدد من القطاعات وخاصة في صناعات المنسوجات والملبوسات وصناعات سلاسل التجميع والصناعات الالكترونية. وقد كانت نمور آسيا من البلدان التي استثمرت هذه الفرص بنجاح بينما فشلنا في ذلك لأسباب كثيرة لا مجال للدخول فيها الآن.‏

وكل هذه مجرد أمثلة وليس تحديداً للقطاعات القاطرة. وإضافة للقطاعات الاقتصادية القاطرة القائمة لا بد من وضع استراتيجيات وبرامج رعاية خاصة بتنمية قطاعات اقتصادية جديدة (قطاعات ناشئة) في قطاعات تتطلب كثافة رأسمالية أعلى وتأهيلاً علمياً أعلى ولكنها تنتج قيماً مضافة أعلى مثل بعض الصناعات الكهروميكانيكية التي تنتج المعدات والآلات. وقد لا تكون هذه القطاعات تلعب أي دور يذكر اليوم ولكن توضع الاستراتيجية وبرنامج الرعاية المناسبين لتنمية دورها المستقبلي.‏

يمكن لبرامج رعاية القطاعات القاطرة التي ذكرناها أعلاه أن تشمل بعض أو كل (حزمة الرعاية) التي تبدأ من التعليم والتدريب لرفد القطاع بكوادر مؤهلة في الاختصاصات المناسبة ودعم البحث العلمي المخصص لتنمية القطاع وتشجيع إنشاء نشاطات متممة في السلسلة التكنولوجية لزيادة إنتاج القيم المضافة وزيادة الترابط الداخلي ومنحه إعفاء ضريبياً مشروطاً وقروضاً ميسرة وربما دعماً خاصاً بأسعار الطاقة ومنح منتجات القطاع نقاط ترجيح وتفضيل من قبل المشتريات الحكومية واستخدام أشكال حمايات ذكية من المنافسة الشديدة والممارسات غير العادلة في التجارة الدولية والاهتمام بخاصة بتنمية صادراته بدءاً من دعم مشاركته في المعارض العالمية مروراً بتطوير قدراته على الترويج لصادراته وانتهاء بدعم مالي لها، رغم تحفظي على هذا النوع من الدعم خوفاً من التلاعب الذي يجيده قطاعنا الخاص ببراعة.‏

إن تخصيص القطاعات القاطرة باستراتيجيات خاصة وبرامج رعاية خاصة لا يعني إهمال القطاعات الأخرى، فهي ستبقى مشمولة بالاستراتيجية الاقتصادية العامة والمزايا التشجيعية العامة التي تجعل من الاقتصاد الوطني ككل مناخاً مشجعاً على الاستثمار ورفع الإنتاجية وزيادة المردود ورفع القدرة التنافسية، وستكون الاستراتيجيات وبرامج الرعاية الخاصة بالقطاعات القاطرة تشكل جزءاً من الاستراتيجية الاقتصادية العامة للبلاد.‏

ورغم أن الخطة الخمسية الحادية عشرة هي في مراحلها الأخيرة نأمل أن تتخذ المبادرة لاستدراك هذا النقص والقيام بمسح وتقييم وتحليل لكل قطاع وتحديد القطاعات المستهدفه ووضع إطار عام لبرامج رعايتها.‏

Samirseifan@adc.com.sy

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية