بجوار قبر أبيها في مقبرة الشهداء في بيروت التي تضم تحت ترابها وأشجار صنوبرها مئات الشهداء من بينهم غسان كنفاني والشاعر كمال ناصر، ثم أجلس خاشعاً أمامه كأنني في صلاة، وكنت منذ أفولها قد طلبت من موظف في المقبرة أن يعتني بنظافة القبر، وغسل رخامه بالماء النقي كل يوم مع تزيينه باستمرار بالآس الأخضر وشعاب البخور تفوح رائحته إلى مدى بعيد بين القبور وذلك مقابل مبلغ شهري مجزٍ وضعته في تصرفه، ولم يتردد الشاب لا من أجل المرتب الشهري بل لأنه عرف قيمتها الشعرية.
منذ بضعة أيام على ذكرى رحيلها الخامسة خطر في بالي أن أسأل هذا الشاب واسمه يحيى: ماذا بقي منها؟!
أجاب كأن الموضوع لايعنيه....لاشيء..
ذهلت وسألته: لاشيء؟
أجاب بنفس اللهجة: لاشيء
ثم أردف.. إلا ماتبقى من عظامها!
اختنق قلبي وكدت أتداعى لولا أنه أمسك بيدي قبل أن اتهاوى ورحت أكرر همساً: لاشيء...لاشيء هذه السيدة الجميلة التي كانت موجودة بقامتها الفارهة وجسدها الممشوق المشدود كنخلة وشعرها الفاحم وعينيهاالسوداوين لاشيء بقي منها.. لاشيء..لاشيء
ما أقسى هذا الموت الصلف الذي يضحك من وراء ظهورنا مخلفاً في حياتنا الأحزان والخوف والشجون الحارقة والكآبة ..لاشيء ....لاشيء منها.
وكم تألمت كيف فاتني أن لا أحتفظ بخصلة من شعرها وكيف فاتني أن أسجل صوتها الآسر وهي تغني الأغنية الحزينة: في يوم ..في شهر.. في سنة تهدأ الجراح وتنام وعمر جرحي أنا أطول من الأيام لو استغلت صوتها في الغناء لحصّلت ثروة ولكن قلبها المتعب لم يكن ليسمح لها أن تغني .
كيف فاتني أن احتفظ بأساورها وخواتمها وأقراطها التي أخذتها ابنتها قبل أن تلحق بها بمرض سرطان الثدي.
لكنني والحمد لله، احتفظت بملابسها حتى الآن، ملابسها التي أشمها كل يوم..
لايزال عطرها يعبق في المكان في البيت في غرفه وصالونه الصغير في شرفات البيت المطلة على البحر.
من يوم رحيلها وضعت ملابسي بين فساتينها وقمصاني بين قمصانها، حتى ملابسها الداخلية لم تزل بين ملابسي الداخلية. لم ينم في سريرها أحد حتى اليوم.
لم يجلس على كرسيها العالي غير صورتها ولوحة مكتوبة بخط الفنان وجيه نحلة (السيدة أمل جراح)..
لاتزال أمشاطها أمام مرآتها المدورة حسبما تركتها مازالت أقلام حمرتها في مكانها وأقلام كحلها على طاولتها أشياء كثيرة لاتزال في مكانها لم تتغير حتى جدران البيت بغرفتيه وصالونه يحمل لوحاتها لفنانين رسموها طول حياتها.
صورة عرسنا عندما كنا شباباً تستند في إطارها الأسود إلى الجدار المقابل.
لا أزال منذ خمس سنوات أفتش زوايا المنزل في بيروت،وبيتنا في لندن. أفتش تحت الأسرة وفي الخزائن والجوارير عما تركت من آثارها.
وقد عثرت على قصائد لها ومسودات مقالات وعثرت على حوارات مع شعراء نشرتها في شبابها في جريدة النهار وملحقها الأدبي حيث لم تكتب شعرها إلا في هذه الجريدة وملحقها وعثرت على روايتها اليتيمة التي نالت عليها جائزة الحسناء يوم كانت تصدر عن دار النهار ويرأس تحريرها الشاعر أنسي الحاج وترددت نشرها في حياتها، وهاهي الآن قد صدرت عن «دار اليافي» بعد أربعين عاماً على كتابتها وكان عنوانها يوم نالت الجائزة «خذني بين ذراعيك » لكن دار النشر إرتأت أن تسميها بما يتطابق مع موضوعها «الرواية الملعونة» قدمت لها االشاعرة والناقدة زينب عساف تحت عنوان «صبية الجنة بشعرها الأشيب»
كما جمعت لها حواراتها التي نشرتها تباعاً في ملحق النهار مع الشعراء الرواد: أنسي الحاج-ونزار قباني- وأدونيس ومحمد الماغوط والروائيين السوريين حليم بركات وزكريا تامر وستصدر في كتاب في ديروريت في الولايات المتحدة عن دار الغادون.
خمس سنوات
لا أصدق أن خمس سنوات مرّت على رحيلها
في قصيدة لها في كتابها الشعري:« امرأة من شمع وشمس وقمر»
الذي صدر عن دار سعاد الصباح في القاهرة، قصيدة بعنوان« الدمع الانثوي» تقول في مقطع منها:
« كل لحظة أموت مرة أو مرتين
في النوم وفي الصحو
والصمت يتكسر داخل مفاصلي
وفي الدماء
لا أحد يذكر إسمي بعد الرحيل لا أحد يملأ سطوري بالأناشيد.
هذا التنبؤ لم يكن صحيحاً يا حبيبتي، فها هي جريدة البعث توزع كتابها الشهري المجاني بعنوان«مختارات شعرية من أمل جراح »وزعت منه خمس وعشرين ألف نسخة، وعلى الغلاف صورتك الجميلة
ها هي برامج ومقابلات تبث في أقنية التلفزيون والاذاعات عن حياتك
ها هي رسائل جامعية أعدت عن تجربتك الشعرية في أكثر من جامعة
من قال: أن لا شيء بقي منك
لم تغبي أبداً
ها أنت تدقين الباب وتحضرين في الاحلام غالباً في الليل بعد الليل.
ها أنا - كما اعتدت- لا أستيقظ إلا على لمسة أناملك على جبيني أو همسك الرقيق.. هس ...هس، فأستيقظ وقد عبق البيت برائحة قهوتك.
وها أنا على شرفة الورد، كما سماها الشاعر شوقي بزيغ أصنع قهوة الفناجين واحد لك وواحد لي.
واذا ذهبت إلى المقهى أجلس على الطاولة نفسها التي كنا نجلس عليها معاً
ها هو هاتفك الخليوي لا يزال على الطاولة، أشرجه على مدار الشهر، أهتف لك من هاتفي. ثم أعود واهتف من هاتفك لي، فيظهر اسمك على شاشة هاتفي: أمل جراح
هل أنا أبالغ؟
لا أبالغ.. إنها أمل جراح التي لم يأت الدهر بمثلها، ولم يخلق الله أنثى تشبهها
هي موجودة هنا في هذا البيت
موجودة بأناقتها، وشفافيتها ، وحزنها الجميل
فإن قال يحيى لم يبق منها شيء، فهو صادق. لأنها لم تغادر البيت فقط، وانني اسمع خطوات حذائها بكعبه العالي ينشر موسيقاه في أرجاء المكان والزمان .
***
الرواية الملعونة
صدرت عن دار الساقي في بيروت رواية أمل جراح اليتيمة «الرواية الملعونة» التي نالت عليها جائزة الحسناء عام 1968 إلى جانب سنية صالح للشعر وسلوى صافي للقصة القصيرة وكانت اللجنة مؤلفة من الكاتبة السورية الكبيرة غادة السمان والشاعر والناقد الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا والشاعر اللبناني يوسف الخال ...
أمل الجراح 1945 - 2004