وأن عدداً قليلاً من المثقفين بات منظراً نخبوياً تحتضنه الفضائيات ذات المشاريع التخريبية، وتدفع له بسخاء، وثمة من يرى أن الأحداث التي عصفت طوال الخمسين سنة الماضية بالعالم العربي أغرقت المثقف الإيديولوجي النقي في وحل اليأس والهزيمة إلى فمه، فبات عينين تتحركان لا أكثر، فيهما كثير من الوجع والصمت.
هذه آراء وثمة آراء أخرى كثيرة، لكنني أستطيع القول إن غياب دور المثقف في الأحزاب والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والتربوية خلق وضعاً مأساوياً نقرؤه في الموقف السياسي العربي العام وفي ضحالة الفكر السياسي لكثير من الأحزاب القومية التي كانت في مرحلة ما تجمعاً للمثقفين النهضويين، غياب المثقف النهضوي عن حياتنا العربية، أو غياب دوره على الأقل أحال الواقع العربي إلى واقع مأساوي، لأن المثقف في الأساس هو نسغ الحياة السياسية والثقافية لأي أمة، أولأي حزب يريد أن يستمر ويحيا ويحمل مهامه، لا أستطيع أن أتصور وجود حياة حزبية أوفكرية أواجتماعية صحيحة بغياب المثقف عنها.
البارحة تجنبت ما أمكن الدخول في حوار حول دور المثقف، لأنني يئست أوتعبت من الحديث عن الأخلاقيات الاجتماعية والسياسية التي أصابتها رياح التغيير، أولأن حواري الصريح والجريء خلق لي كثيراً من التعب مع المثقفين أنفسهم، ووضع في طريقي كثيراً من المتعبين- بكسر العين- الذين يرون في المثقف عدواً وخطراً، بل لأن المجتمع لم يعد يصغي لصوت المثقف، ولم يعد المثقف الجماهيري أوالطبقي كما كان يسمى في موقع الاحترام الحقيقي، حتى من الفقراء أنفسهم، فالوجاهة المادية والسلطوية والعشائرية اجتاحت كل حالة معنوية كان يتمتع بها المثقف الجماهيري.
متغيرات كثيرة طرأت على حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية في كل المدن العربية، ووصلت تلك المتغيرات إلى أبعد قرية نائية من جبال الأطلس إلىجبال زاغروس، وضعت المثقف الجماهيري، أو القومي، والمثقف الأخلاقي في مواجهات حادة مع محيطه الاجتماعي والسلطوي، وهنا أضع ثلاثة خطوط تحت كلمة سلطوي، لأن السلطوي العربي بالتحديد في عداء مع المثقف والثقافة.
أحد الأصدقاء سألني ما الفرق بين واقع مثقف هذا الزمان، ومثقف أيام زمان؟!.
ولأنني لاأريد الدخول في حديث طويل مشوب بالحزن، بقيت صامتاً، وظن صاحبنا أنني لم أفهم سؤاله فقال: «بصيغة أخرى أين دور مثقف اليوم عن دور مثقف الأمس في حياة الجماهير، وفي حياة الأحزاب السياسية، هل مازال المثقف يحمل العلم ويمشي في المقدمة، أم إن العلم سقط من يده؟!.
صديق آخر سألني: هل السلطة في هذا الزمان من تصنع المثقف أم إنه من يصنعها؟! ولأنني لا أحب الأسئلة الاستفزازية، قلت له تقصد أين فاعلية المثقف الفكرية والثقافية والسياسية؟!، ولأنه لم يفهم توضيحي الذي جاء في صياغة استفهامية، أعدت صياغة رأيي على النحو التالي: تقصد، هل بات دور المثقف مهماً وأساسياً في الأحزاب السياسية، أم إن الأحزاب استعاضت عن المثقف الإيديولوجي بمثقف صنعته على مقاسها ليكون عكاز السلطة، ولسانها؟!.
بعض المثقفين في أغلب المدن العربية، وهم قلة، وبعض هذه القلة تظن نفسها خميرة خبز الجماهير الثقافي والسياسي والاجتماعي، متناسية أننا في زمن البسكويت الثقافي، التي تصنعها أفران الطوائف والمذاهب والعشائر والأنظمة القطرية والنخب السياسية والاقتصادية التي جمعت المجد من كل أطرافه دفعة واحدة، المال والفهم والفكر والقدرة على التنظير والتصنيف. والتعليل والتأويل والإعلام كما يقول برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا: «المال يصنع الإعلام، والإعلام يصنع الرأي، والمثقف الإيديولوجي غاب حتى عن الذاكرة».
صديق يجهد نفسه بقراءة الكتب القديمة التي يباع بعضها في أسواق الكتب المستعملة والكتب الجديدة من المكتبات التي لم تغلق أبوابها بعد بالرغم من الضائقة المالية التي تعصف بأصحابها، يقول صديقي: «في زمن المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية اختفى المثقفون أو بالأحرى اختفى دور المثقفين الجماهيريين، ليس لأن المثقفين الرجعيين كما كنا نسميهم أيام زمان باتوا يبسطون نفوذهم على وسائل الرأي، أبداً لو كان الأمر كذلك لقامت حروب ثقافية كبيرة بين المثقفين الجماهريين والمثقفين الرجعيين كما كان يحدث في الماضي، وأنتجت حراكاً فكرياً مهماً بموجب نظرية الديالكتيك التي تقوم على تضاد الأشياء، المشكلة أن الأحزاب التي أنتجها المثقفون تخلت عنهم».
هذا الرأي يذكر بقول لسارتر: «يناضل المثقف، يقود حركة الناس إلى المنصة، وعندما يصلها يعتليها غيره»، في هذا الرأي الذي قدمه سارتر بعض الواقع الذي عكسته حركة الأحزاب اليسارية التي تسلمت السلطة في أوروبا الشرقية، لأن من أولى المهام التي قامت بها هذه الأحزاب هي التخلص من مفكريها الإيديولوجيين، لهذا مع مرور الوقت لم تتجدد أفكار وعقول ومفاهيم رجال هذه الأحزاب، فحدث ماحدث، في حين أن الأحزاب البرجوازية في أوروبا الغربية، وفي أميركا كانت أكثر ذكاء وفهماً لدور المثقف، فأقامت لهم مراكز الأبحاث السياسية والثقافية والاجتماعية والإعلامية، مثلاً نجد في أميركا أن معهد أميركان أنتر برايز الذي يضم عتاة المثقفين المؤدين لإسرائيل هم الذين يقودون السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن هنتغتون وفوكوياما في «نهاية التاريخ» وصراع الحضارات على سبيل المثال شكلا عقل وطريق المحافظين الجدد.