وقد كان، كما يقول محمود السعدني: مدرسة في فن السخرية «سخر من كل القيم التي كانت تسود عصره، سخر من الأوضاع، وسخر من الناس وسخر من نفسه... ومن النظام، ومن القانون»..
وعلى الرغم من أنه نما في بيئة ميسورة إلا أنه مات لا يمتلك شروى نقير، ومع أن مالا كثيراً تدفق بين يديه،فإنه أنفقه كله، ذاك أنه عاش حياة تبذير وعربدة ولم يتزوج، ولعل هذا ما جعل الاستاذ السعدني يشبه حياته بحياة أبي نواس.
من امرىء القيس إلى ابن سودون
وقد اطلع هذا الشاعر اطلاعاً جيداً على التراث العربي السوري، من امرىء القيس وطرفة، مرورا بجرير والفرزدق والمتنبي، وانتهاء بابن الانباري وابن سودون وسواهما، وكان الى هذا، حجة في اللغة العربية يبدأ مساءه بالطواف على بعض المقاهي والبارات الفقيرة يسامر الصحب والناس ويوزع النكات، ويقضي آخر الليل بجمع أوزان الشعر المهجورة بتكليف من أمير الشعراء أحمد شوقي.
الكشكول والخلاعة والفكاهة
عمل في عدد من الصحف تنبىء أسماؤها عن طبيعتها الساخرة مثل «الكشكول» و«المسامير والسيف» و«الخلاعة» وعام 1926 أصدرت دارالهلال مجلة ضاحكة دعتها«الفكاهة» أسندت رئاسة تحريرها إلى حسين شفيق المصري فظلت تصدر ثماني سنوات.. ثم تحولت الى مجلة «الاثنين» التي جمعت بين الجد والهزل وظلت تصدر إلى أوائل الستينات.
بين المعارضة الشعرية ومحاضر التحقيق
وفي هذه المجلة «الفكاهة» تجلت عبقرية حسين شفيق الصحفية وابداعه الشعري.. الساخر الضاحك.
فقد كان أحد أبواب المجلة الثابتة «باب المعارضات الشعرية» فيأخذ حسين مطلع قصيدة لشاعر مشهور ثم يعارضها بقصيدة من نظمه، من الوزن نفسه والقافية ذاتها، بأسلوبه الفكه الظريف، وأنشأ في المجلة باباً ساخراً لمحاضر التحقيق، على منوال تحقيقات الشرطة، وباباً آخر للمحكمة، ويورد الأستاذ عبد الغني العطري المثال التالي مما كان ينشره حسين شفيق في باب المحكمة.
رئيس المحكمة: اسمك إيه؟
المدير: مدير الترماي.
الرئيس: وصنعتك؟
المدير : بعيد عنك..مدير الترماي.
الرئيس: عمرك..كم سنة؟
المدير: عشرة آلاف قتيل.
الرئيس: أنت متهم بإهمال نشأت عنه حوادث دهس كثيرة.
المدير: كله بالقضاء والقدر.
الرئيس: وإيه القضاء والقدر.. دول؟
المدير : يعني العجلتين اللي في أول القطر.
الرئيس : فيه شهود كتير بيقولوا أنهم شافوا الترماي بيدهس الناس.
المدير: كدابين.... لو كانوا شافوه كان داسهم.
الحاج درويش وأم اسماعيل
ويلاحظ محمود السعدني أنه خرج بحصيلة جيدة من صداقته لأرباب المهن: الكواء «المكوجي» والقهوجي والجابي «الكومساري».. إلخ استطاع أن يقدم منها للأدب الشعبي شخصية خالدة، هي شخصية «ابن البلد» والحاج «درويش» و«الست» المشاكسة المشاغبة: «أم اسماعيل» ومن هنا استوحى كتابه: الحاج درويش والست أم اسماعيل الذي يرى السعدني أنه خير كتبه وأكثرها صوتاً وحرارة وفهماً لطبيعة الروح المصرية .. على الإطلاق.
ونقد بأسلوبه لاذع المرارة أولئك المتفرنجين الذين يخلطون في كلامهم اللغة الفرنسية بالعربية، في بعض الأقطار العربية وبلسان واحد من هؤلاء نشر خطاباً كتبه الى آخر وجاء فيه:
ليتر بالإيروبلان دومان
مونامي مجاعص... بعد السلام، أعرفك يا مون فرير أي يا أخي أن الهجينhygiene أي الصحة تبعي تريبيان أي جيدة جدا وفقط عندي جراند زعل- زعل كبير من حكم الفرنساوي ويكون بعلمك أني دومان اي غدا رايح شان أشوف حال المون بير أي الوالد وأكتب ليتر بالإيروبلان أي رسالة بالبريد الجوي..!
ويقدم الاستاذ السعدني نموذجا من محاضر التحقيق التي كان يكتبها ثم ينشرها حسين شفيق في «الفكاهة» كالتالي:
مع الشاويش ..شعلان
يقول الشاويش شعلان في المحضر: «في تاريخه أدناه وأعلانه،أنا الشاويش شعلان عبد الموجود، شاويش آه ياناري، في الساعة كذا وأنا جاعد - قاعد- في الجسم-القسم- حضر جدامي-قدامي- جدع طويل عريض زي الشحط،متهم في جناية خطف فرخة.
وبعدين سألناه عن اسمه وعن رسمه... وعملنا المحضر اللازم».
حتى بعد أن كف بصره
ولم تفارق روح الدعابة حسين شفيق المصري، حتى آخر ساعات ولحظات حياته، ولذلك يقول السعدني: إن شفيق المصري مات مبتسما فقد التقى به أحد أصدقائه قبل وفاته بيوم واحد، وكان حسين قد فقد بصره تماما وأصبح أعمى، وتطوع شاب من أقربائه.. لمرافقته ولما سأله الصديق عن الشاب الذي يرافقه، أجاب حسين شفيق: دا، واحد ساحبنا، أي: صاحبنا, واللعبة اللفظية...واضحة..
وفي اليوم التالي سحبه عزرائيل إلى الآخرة.
الهوامش
(1) الظرفاء-محمود السعدني- دار أخبار اليوم- القاهرة 1992 ص 99
(2) المصدر السابق- ص102
(3) عبد الغني العطري- أدبنا الضاحك- دار البشائر- دمشق -ط1992 ص 263-264
(4) الظرفاء- محمود السعدني ص 105
(5) المصدر نفسه-ص 105
(6) المصدر السابق- ص 107
(7) المصدر نفسه- ص109