ويدلل على ذلك بخطابات أردوغانية شعبوية تعبوية تستعيد مصطلحات غابرة تعود لثقافة تلك الفترة السوداء من تاريخ المنطقة، والبعض الآخر يعتقد أن أردوغان مجرد بيدق صغير يتحرك على رقعة السياسة الأميركية حول العالم، ويدلل على ذلك بالوجود العسكري التركي في محمية قطر في مواجهة أطماع النظام السعودي مع أن الأخيرة هي بالأساس مجرد قاعدة أميركية لا أكثر ولا أقل، وبمحاولات التدخل التركية في الشؤون الليبية على مرأى ومسمع الأساطيل الأميركية التي تجوب المتوسط على مدار الساعة، كما يعتبر هؤلاء أن أكثر الأدلة وضوحاً على تأدية نظام أردوغان الإخواني دوراً وظيفياً تابعاً لواشنطن هو الدور المشبوه والتخريبي الذي مارسه في سورية على مدى ثماني سنوات من الحرب عليها، بالرغم من العلاقات (الجيدة) التي تربطه بكل من روسيا وإيران أقرب حلفاء دمشق في حربها على الإرهاب.
عند الحديث عن هذه الجدلية المرتبطة بالموقف التركي المتناقض من قضايا المنطقة لا بد أن نستذكر أو نضع في الحسبان قضية أخرى على غاية من الأهمية لنفهم حقيقة هذا النظام الديكتاتوري الإسلاموي المشبع بالحقد والسلطة والغرور، وهي أن تركيا جزء من حلف الناتو، وكانت ــ وما زالت ــ تشكل رأس حربة هذا الحلف العدواني في مواجهة المصالح الروسية في المنطقة ومواجهة أي قوة أخرى تغرّد خارج إطار الهيمنة الأميركية، ولا يوجد دليل أوضح من العلاقة التي تربط أنقرة بالكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين بما تمثله من بعد روحي لكل المسلمين حول العالم، ولو كان نظام أردوغان «العصملي» يهتم بقضايا العالم الإسلامي بقدر تأديته لدور وظيفي موكل إليه من قبل واشنطن، لما كانت دباباته تجتاح تعتدي على الشمال السوري ويتوجه مرتزقته إلى ليبيا للتدخل في شأن دولة تبعد آلاف الأميال عن بلاده، في حين لايزال يقيم أفضل العلاقات مع من يحتل القدس والمسجد الأقصى ويرتكب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني المظلوم.
ولعل الأكثر بؤساً وتراجيدية هنا أن البعض ينظرون إلى أردوغان باعتباره زعيماً إسلاموياً منقذاً ويقبلون على أنفسهم الانضواء ضمن أجنداته المجرمة وتحت لواء جيشه المعتدي والغازي في العديد من الجبهات، كما يحدث اليوم في سورية وفي ليبيا والعديد من الأماكن، وربما الأكثر إثارة للسخرية والتهكم هو موقف بعض من يدعون (المقاومة) في لبنان وفلسطين من السلوك التركي العدواني في المنطقة، في الوقت الذي يتآمر فيه على قضاياهم مع ترامب ونتنياهو، ولكن التفكير الساذج والمريض الذي يحمله هؤلاء لا يسمح لهم برؤية شيء من أردوغان سوى الإطار الإخونجي الذي يدعيه ويستعمله كعامل تعبئة لزيادة شعبيته في المنطقة.
لعل السؤال الذي يطرحه الكثيرون اليوم بخصوص الدور الوظيفي التركي هو ما هي ماهية وطبيعة هذا الدور وما هي وظيفته الحقيقية، وهل يوجد تناقض بين ما تنتهجه الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة وبين ما يعلنه أردوغان من مواقف وما يمارسه من سياسات ويطبقه كأجندات، في الحقيقة لا يوجد أي تناقض من حيث المضمون بين واشنطن وتركيا الأردوغانية، إذ يُراد للدور التركي الوظيفي في محمية قطر أن يؤدي بعداً تقسيمياً تخريبياً ضمن ما يسمى (العائلة الخليجية) بحيث تستثمره واشنطن كأحسن ما يكون الاستثمار، صفقات أسلحة ونفقات أخرى ولا سيما أن الدول العربية انقسمت على خلفية هذه الأزمة، كذلك الأمر فإن التدخل التركي في ليبيا كان عامل تأزيم إضافي بين تركيا وقطر من جهة وبين مصر والإمارات والنظام السعودي من جهة أخرى، وهذا ما يسمح للولايات المتحدة بإبقاء جبهات التأزم والحرب مشتعلة إلى حين تحقيق المصالح الأميركية، من دون أن تنفق شيئاً أو تخسر جندياً واحداً، فالمتقاتلون والمتحاربون والضحايا عرب ومسلمون، ولو كان أردوغان يلقي بالاً لهذه القضية أي دماء العرب والمسلمين لفتش عن كل طرق التفاهم مع الجيش الليبي الذي يحارب مرتزقة وإرهابيين في غرب ليبيا ولما تأجج الخلاف بين نظامه وبين أنظمة عربية وإسلامية أخرى كما يحدث اليوم.
ولعلنا نستطيع أن نقول نفس الكلام ونسقطه على الحالة السورية حين يتعلق الأمر بنظام أردوغان، إذ أن التركي في الشمال السوري ــ ثلاث عمليات تركية احتلالية خلال عامين ــ ينقل المواجهة من مكان إلى آخر، فبدل أن تكون المواجهة بين الجيش العربي السوري وبقايا التنظيمات الإرهابية الموجودة في الشمال ومحافظة إدلب، يتعمد أردوغان نتيجة تبعيته العمياء لواشنطن وحرصه على تأمين مصالحها وتأدية الدور الوظيفي المناط به نقلها إلى مواجهة بين السوريين أنفسهم، مستخدماً بعض مرتزقته من السوريين في مواجهة جيشهم الوطني ودولتهم، في نفس الوقت الذي يرفع فيه من احتمال المواجهة بين الدولتين الجارتين سورية وتركيا برغم من وجود اتفاق آضنة، وهذا لا يخدم سوى عدو واحد هو العدو الإسرائيلي ومن يدعمه، ولو كان أردوغان يعادي إسرائيل حقيقة، لما قام بتأدية هذا الدور الوظيفي المشبوه في المنطقة.
لقد قدّم الحليفان الروسي والإيراني عبر مسار آستنة وسوتشي للنظام التركي كل الضمانات الأمنية التي يبحث عنها ويطالب بها والكثير من الفرص التي تسمح له أن يكون لاعباً إيجابياً ضمن إطار الحل السياسي المنشود في سورية، ومع ذلك أبى إلا أن يكون لاعباً صغيراً ضمن الأجندات الأميركية المعلنة والمكشوفة في سورية، مؤكداً المرة تلو المرة طبيعة الدور القزم المنوط به، ورغم ذلك لن يكون مصيره بأفضل من مصير الكثير من عملاء أميركا في المنطقة، إذ أن للعملاء ــ مهما كان حجم دورهم ــ فترة صلاحية محدودة سرعان ما تنتهي، ولن يكون ذلك ببعيد عن أردوغان ونظامه، بعد أن استهلك الكثير من ماء وجهه في صراعات المنطقة وأزماتها، وبعد أن مارس دوره بأدنى درجة من الأخلاق والقيم، كما كان يفعل أسلافه من سلاطين بني عثمان وصولاً إلى ورثتهم من الإخوان المسلمين الذين لا يحملون مثقال ذرة من الأخلاق والقيم والمبادئ..!!