فالمشهد بكامله ليس كما نتوق، فضلاً عن التداخلات بين المستويات والمشاهد كافة، وامَّحاء الحدود بين من يعمل وينظِّر ويكتب ويفكر بين المستويات المختلفة هذه، من أبرز ملامح هذه المرحلة.. لعلَّ أكثر ما يثيرُ الاشمئزازَ والبرَمَ ومشاعرَ العجزِ، حينما يسأل مثقَّفٌ دوراً، أو يتسوَّلُ ذو فكرٍ موقعاً، أو يستطلب صاحب قلمٍ ورأيٍ مكانةً، وبغيته في كل هذا كما يدَّعي أن يجد المنبر المناسب أو الموقع المؤثر ليكون ذا تأثيرٍ أو فعلٍ.. الميدان متاح.. والمناخ يصنع.. والوسائل تخترع.. والحوامل تستقطب.. حوامل أي مشروع أو رؤية أو رؤيا، فإذا ما كان هذا المثقف متمكنا من مشروعه ومبدئه حد القضاء في سبيله، أو تحقيقه، فهو عندئذ أرفع من أن يطلب دوراً أو يستجدي وسيلة أو يستمطر مساعدة..
ترى ما الذي اعترانا.. ما الذي اعتور أجيال المثقفين وداهمهم وواجههم عبر العقود الماضية الأخيرة حتى وصلنا لوقتنا وحالنا الراهنين.. هل لأننا بدأنا نتخلى عن الفكرة-المبدأ، لصالح المنصب-الهدف وهنا مقتل الثقافة والفكر والقلم؟.
إن ما يستوجب طرح هذه التساؤلات لهذه الإشكالية بعض المظاهر التالية: لمَ الجهود الإبداعية والفكرية والثقافية، على فرادتها وتميزها، فردية أحادية غير جمعية، ربما لم يتأت لها أن تشكل نهضة جمعية طوال العقود الماضية؟ لمَ الأفكار والهموم والهواجس والتطلعات حين اللقاءات والأحاديث الشخصية أو الفردية أو الجانبية بيننا واحدة وملتقية بينما لا تتوضح في إرادات حقيقية لتحقيقها؟ بالتالي، وإن سلمنا بأن هذه الفكرة صحيحة وهي واقع نعيشه، أي انفصام المثقف عن واقعه وعن فكره وعن حاضره ومستقبله لصالح ماضويته إلى أكثر من شخصية في الوقت الواحد: فهو هنا صاحب رأي ومبدأ مفكرٌ منظرٌ بكل دلالة الكلمة - وهو هناك متخل عن كل هذا كليا أو جزئيا، بل ومنكر له أحياناً مضمرٌ له فقط - وفي مكان آخر لا يصرح برأيه أو موقفه أو مبدئه ولو تطلب ذلك ولو بموقف بدهي حق.. ترى كيف ولم وصلنا إلى هذه الحال.. سؤال برسمنا جميعاً ولعلنا لا نكتفي بنتائج الانفصام هذه بل نتعداها لعداء بعضنا البعض فكرا وشخصنة مع يقيننا بأن البعض الآخر ممن نخاله أو نختلف معه أو نخاصمه هو غاية الحق وغاية الصواب بل وتجب مساندته بالقول والرأي والفعل؟.
ترى هل وصل بنا واقع التشتت وحال التشرذم لدرجة أن بتنا وراء المشكلات والمعضلات والأسئلة الجوهرية والمبادئ الأساسية الكبرى، بدلاً من أن نكون في الطليعة والمقدمة كفكر وقول وفعل وممارسة لا تنفصم عراها في الشخص الواحد لدرجة أننا إن عثرنا وبقي بيننا من يقبض على جمر مبدئه يشار له بالبنان إشارة الخوف منه أو عليه لدرجة اللاإشارة؟ وكأنه المجذوم المنبوذ المهمَّش المقصي..؟ سؤال أيضاً برسم الجميع مثقفين وأدباء وكتاباً وحملة فكر وقلم.. ترى هل باتت أقصى مطالبنا وطروحاتنا تدور في فلك المشكلة لا جوهرها وفي مظاهرها لا عمقها وفي قشورها لا لبها؟.. ترى هل باتت قيمة الكاتب أو المفكر أو الأديب أن يسأل مكانته وقيمته؟، فمن هو إذاً إن لم يأخذ دوره وينتزعه؟ لو كنا نمثل كحالة جمعية ضمير الشارع وزخم الجماهير لما احتجنا أن نطلب تظهيرنا، أو أن نعطى دورنا.. لقد باتت الضرورة ملحة لتغيير وتطوير الخطاب الفكري وذهنية العمل الفكري.. شهداء المبدأ مازالوا أحياء في الضمائر.. خالدين في صفحات الأوطان الناصعات.. فليكونوا منارتنا وجذوتنا لدور قادم أقوى وأنصع وأهم.. بلداننا تستحق وإنساننا يستحق أكثر.