ومانغويل ليس غريباً عن بورخيس، إذ تعرف عليه حين كان في السادسة عشرة من عمره، وعمل لديه، ليعود ليكتب هذه التجربة في العديد من كتبه.
مجلة لوبوان الفرنسية، أجرت مؤخراً حواراً مع مانغويل، هنا بعض منه:
< «بالنسبة إلى مانغويل، لا شيء صحيحاً، إلا إذا كان مكتوباً في كتاب»، هذا ما يقترحه أحد رواة روايتك الأخيرة «كل الرجال كذابون» بصدد إحدى الشخصيات التي أعطيتها اسمك.. هل تجد نفسك في هذه الجملة؟
<< بمعنى من المعاني حتى وإن كانت هذه الجملة تحمل بعداً ساخراً, عرفت طفولة مرحة. كنت وحيداً، لم أذهب إلى المدرسة، وكان لدي حاضنة تهتم بي . بالنسبة إليّ، كان العالم، بما أنه مغامرة، موجوداً في الكتب. بالطبع، أميز اليوم بين الأمور، لكني أستمر بالاعتقاد بأن معرفة حقيقية للعالم لا تمرّ إلا عبر الكلمات. ربما هناك أناس ينجحون في فهم العالم عبر وسائل أخرى. بيد أنه من الضروري لي أن أضع كلمات على الأسئلة التي أطرحها على نفسي، وحول أي تجربة. إلا أنني أفضل الكلمات في الكتب.
< تقول في كتاب «غابة الكلمات» إن ديكنز اخترع لندن، ومارك توين اخترع الميسيسيبي..
<< بالتأكيد! وبالطريقة عينها التي لم تعد فيها الكلمات بريئة أبداً، هكذا هو العالم أيضاً. من المؤكد أنه من الممكن أن نصل إلى مكان يبدو لنا حيادياً، لكنه غير معروف كثيراً. إن أصغر قرية بعيدة في فرنسا لا بدّ من أن كلمات سيمنون أو جيونو قد أصابتها أصداؤها.. في حالة المدن الكبيرة، نجد أن جزءاً من جاهها عائد إلى الأدب. كيف يمكن تخيل باريس، لندن، البندقية بدون الكتب التي كتبت عنها؟ وصلنا إلى مرحلة صار معها من المستحيل أن نعري هذه المدن كي ندرك ما كانت عليه بدون الأدب.
< حين التقيت بورخيس، كنت قارئاً شغوفاً به. ما الذي علمك إياه؟
<< حرية كبيرة. كلّ قارئ سيكتشف يوماً أن الأدب لا ينتظم أبداً عبر المواضيع أو الجنسيات أو التسلسل التأريخي، بل وفق تداعيات حميمية، وأحيانا سرية. بالنسبة إلى بورخيس، كان هذا المزيج طريقته في العمل. لم يكن يزعجه أبداً أن يجمع أغاتا كريستي بأفلاطون، إن وجد أن لديهما فكرتان قريبتان منه. لم يكن يعتذر عن ارتكاب المفارقات، الأخطاء التي يمكن لأي مؤرخ أدبي أن يصفها بقدح في الذات الملكية. بالنسبة إليه، هناك بعض الكتّاب المهمين لا يساوون عنده شيئاً! لم يكن زولا، بلزاك، موباسان، غارسيا لوركا، شاتوبريان موجودين بنظره! يمكننا أن نصنع تاريخا للأدب أكثر شرفاً انطلاقاً من الكتّاب الذين كان بورخيس يحتقرهم.. أبان لي أيضاً كيف يمكن اكتشاف آلية الكتابة. طلب مني أن أقرأ له في اللحظة التي قرر فيها أن يعود إلى كتابة النثر، وهذا ما منع عنه منذ أن أصيب بالعمى. قبل أن يبدأ، أراد أن يعرف كيف أن كبار كتّاب القصص توصلوا إلى ذلك. تتطلب القراءة ليس فقط علاقة المتعة هذه مع النص، بل أيضا بحثاً أكثر شكلانياً حول الطريقة التي تنبثق عند كلّ كاتب. وهذا التقصي، بدوره، يشكل متعة.
< أحد الأسئلة التي تجتاز عملك هو معرفة ما هو القارئ..
<< القارئ المثالي، هو المترجم بالتأكيد. هذه أيضاً فكرة لبورخيس كان أطلقها. حين تترجم، عليك أن تفهم بأي طريقة صنع عليها النص، كي يمكنك أن تعيد صنعه على طريقتك. وهذا ما يطرح سؤال تحديد الأدب نفسه. النص الأدبي، هو هذه الكلمات المختارة كي يتم وضعها في ترتيب لتعطيها موسيقا ما. لكن إن أزلت منها القواعد، موسيقاها، كلماتها كي تبدلها بأخرى، فما الذي عندها يسمح لك بالقول بأن الأمر يتعلق بالنص عينه؟ ما الذي يسمح لك بالقول إنك تقرأ دوستويفسكي، في حين ما من عنصر من تلك التي وضعها في نصه موجودة هنا؟ إنه سؤال بدون جواب، وهذا ما يحدد، بالنسبة إليّ، الأدب.
< ثمة نصوص هدامة. إلا أنه يمكن لفعل القراءة أن يكون كذلك أيضاً؟
<< أجل، لأنه في مجتمع السرعة والسهولة، نجد أن الفعل الذي يذهب بخلاف هذه السرعة، أي ببطء وعمق وتأمل، أي القراءة، يصبح فعلاً هداماً. أن نمتلك مكتبة وأن نتكلم بجدية عن فرلين يمكن له أن يظهر عملاً تافهاً في القرن التاسع عشر. الأمر يبدو أخف بكثير في أيامنا هذه...
< يبدو الأمر متناقضاً: إذ إن ثقافة الكتابة لم تكن يوماً مهيمنة وحاضرة كما هي عليها اليوم..
<< بالتأكيد، لكن ما الذي تنقله الكتابة التي تحيط بنا؟ ثمة كتب يمكن لنا بالطبع أن نعتبرها بمثابة صابون أو بيتزا، تباع في الأماكن الفسيحة! اللغة المكتوبة مقسمة على العديد من مناطق النشاط: الأدب بالتأكيد، لكن هناك أيضاً التجارة، السياسة، الدعاية. تحدد قيمة القراءة بطبيعة النص وبسياقه. في حين أنه في مجتمعاتنا، أصبحت القراءة بمثابة أكسسوار. الذي نفقده حالياً، المهارة في القراءة بطريقة فعالة. لنتذكر هذه الأسطورة التي اخترعها أفلاطون في «فيدر»: لقد وهب الإله المصري ثوت إلى الفرعون فن الكتابة. رفض الفرعون ذلك لأنه اعتقد أنه لو قبل ذلك لفقد الذاكرة. كان محقاً! النص المكتوب يحفظ ذاكرة تجربتنا الفردية والاجتماعية. نستقبل النص، ينزلق علينا ونخاطر بأن نبقى سلبيين. لأننا نعرف أنه موجود هنا. في مكان ما، في الفضاء التحكمي، لا نشعر بالحاجة بأن نتملكه. في العصر الوسيط، كانت القراءة بصوت عال تشرك الجسد بأسره، كنا ندمج النص داخلنا عبر عيوننا، أفواهنا، أيدينا. حالياً، لم تعد هناك حاجة لأن نحفظ شيئاً عن ظهر قلب، ولا حتى أن نفهم النصوص حقاً. المشرفون على المكتبات يشتكون اليوم من الشبان الذين لا يعرفون أن يقارنوا بين المعلومات ليهضموها وليصنعوا منها نصاً خاصاً بهم. ثمة خطورة في ذلك، لكنها ليست خطأ التكنولوجيا، بل خطأ المنطق التجاري الدعائي المحيط بنا والذي يرغب في أن نكون مستهلكين لا مخلوقات تفكر.