فتكونت شخصية لا تنتمي إلا إلى الأفكار والمثل الإنسانية العالية، من خير وحرية وعدالة وجمال.
انطلق المدرس من إحدى قرى حلب، في الربع الأول من القرن العشرين، ووصل إلى كل ركن في العالم، وقد تعشق لوحاته طيب قريته ومدينته،
وإشعاع دمشق الأبدي. عشق فرشاة الرسم، كونها تعبر عن حرية يبتغيها. وكتب الشعر على طريقة السورياليين، مقتنعاً بضرورة تطوير الشعر العربي. ورسم كذلك اللوحة السوريالية التي فتحت آفاقاً واسعة أمام المتلقي والفنان السوري. طرح مفاهيم جديدة، وتمرد على الواقع بقوة جعلت منه ركناً أساسياً في تطور اللوحة السورية والعربية، مع أنه حمل لوحته روح الحضارة السورية العميقة، وصهرها في تركيب حداثوي فريد، فجاءت تعبر عن فلسفة الفنان وغناه ورؤيته الجمالية للعالم.
في روما التقى فاتح المدرس بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي اقتنى له أربع لوحات، قال عنها سارتر إنها مزيج من التجريد الرصين ووجود الطبيعة كما نراها في الحلم.
عاد من إيطاليا وعُين معيداً في كلية الفنون الجميلة في دمشق، ثم سافر إلى باريس. وبعد عودته شغل منصب أستاذ الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. انتخب نقيباً للفنون الجميلة في سورية وبقي في هذا المنصب مدة أحد عشر عاماً.
كتب المدرس مجموعتين شعريتين، الأولى «القمر الشرقي يسطع على شاطئ الغرب»، والثانية «زمن اللاشيء». أصدر مجموعة قصصية وحيدة هي «عود النعنع». وجد أن الأدب محرك سري للمحاكمات التشكيلية، وقال بأنه أمام الشاعر فضاء مفتوح، بينما ينحو الرسام إلى التفاصيل الدقيقة.
رفض المدرس اختصار الأشياء الكبيرة بكلمات لها حدود لغوية. نعم لقد قال: «الإنسان ليس كلمة، وكذلك الوطن».
لم يكن فاتح المدرس شخصية عادية في تاريخ الفن السوري، إذ أنه «وبالترافق مع لؤي كيالي» تربع على عرش التشكيل السوري ما يقارب الخمسين عاماً. شغف فاتح بالشعر والموسيقى، ولقبه مارون عبود بجبران حلب.
يتحدث فاتح عن علاقته بالشعر ونظرته إليه في خمسينيات القرن العشرين قائلاً: «كنت أشعر بضرورة تطوّر الشعر العربي، لأن الشعر العمودي ليس الحلقة الأخيرة في الفكر العربي، وكان لا بد للعقل العربي أن يجد أساليب أخرى تعبّر عن المشاعر الدقيقة التي تفرضها الحضارة الحديثة؛ لذلك وجدت نفسي أكتب شعراً سوريالياً، دون أن أعي حداثة ما أكتب؛ بعد سنوات قليلة ثبت أنني كنت بكل بساطة أحد القلائل الذين يكتبون شعراً سوريالياً في ذلك الوقت، حيث كانت الصحافة الحلبية تنشر للشعراء المحدثين: علي الناصر، أورخان ميسر، وكذلك مجلة «القيثارة» التي كانت من أهم المجلات الثقافية آنذاك؛ كنا ننشر فيها أنا وأدونيس ما يخطر في بالنا من رؤى شعرية..».
جاءت مجموعته الشعرية الأولى «القمر الشرقي يسطع على شاطئ الغرب» عام 1959 بالاشتراك مع شريف خزندار، وكانت المجموعة الثانية «زمن اللاشيء» أيضاً بالاشتراك مع صديقه الشاعر حسين راجي في أواخر الثمانينيات. ولكن المجموعة القصصية الأهم واليتيمة، والتي كتبها من دون أن يشاركه أحد «عود النعناع»، قدمها سعيد حورانية واعتبرها من أهم المجموعات التي لامست القاع الشعبي، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي.
اشتهر فاتح فناناً محدثاً، وحمل فنه تغييراً واضحاً، أثر في أبناء جيله والأجيال اللاحقة، ووصل إلى القارات جميعها، كواحد من ألمع الفنانين العرب. ومع هذا، بقي فاتح يدرك قيمة الشعر، وخطورة الكلمة وقدرتها على تغيير العالم، ويقول في هذا الصدد: «أعترف أن كلمتين متجاورتين قد تدفعان إلى انفجار نووي، أما وضع لونين متجاورين فلا يعني شيئاً. الكلمة مخيفة أكثر من اللون».
غادر فاتح عالمنا عام 1999، ويذكر صديقه المقرب الشاعر حسين راجي حواراتهما ويتذكر تلك الأيام الخوالي، قائلاً: «عندما سألته في إحدى المرات عن سبب عدم هجرته مع صديقه الرسام «سامي برهان» الذي شدّ الرحال إلى أوروبا وأصبح أحد مشاهير الفن هناك. قال لي: إنه حاول أن يفعل مثله، لكنه عدل عن ذلك في اللحظة الأخيرة.. لأنه لا يستطيع أن يفارق شجرة التوت التي في دارهم، ولا صوت نقيق الضفادع في نهر قويق، ولا رنين طاسات «أبو كنجو» بائع العرقسوس، ولا ألوان سهول الشمال، كما أنه عاجز عن اصطحاب كل تلك الأشياء معه!».
بقي إلى آخر لحظة في حياته بجانب شجرة التوت، يستمع إلى أصوات الضفادع، ويرسم ما يشعر به وما يراه. إنه عاصفة من المشاعر والموهبة، عاصفة من التغيير الفني الذي أنشأ فناً خاصاً، ما زال تأثيره في فناني سورية، وسيبقى إلى زمن طويل.