كل الأشياء مشرقة» وهو كتاب فلسفي غير نمطي شديد الخصوصية. وخلافاً لمعظم كتب الفلسفة يحاول كتاب «كل الأشياء مشرقة»
معالجة الموضوعات الوجودية الهامة وإثارة الجمهور العام من القراء غير المتخصصين. الكتاب يخلو من الرطانة والصيغ المنطقية. أسلوبه غير رسمي، يشي بالصراحة المباشرة وأحياناً يخلق المتعة في القراءة.
يركز الكتاب على فكرة مألوفة وهي أن زماننا عدمي يصعب فيه الحصول على المعنى والإنجاز. غير أن «كل الأشياء مشرقة» لا يهدف فقط إلى تشخيص أمراضنا الروحية وإنما لعلاجها أيضاً.» العالم بأشكاله المختلفة هو عادة عالم الأشياء المقدسة المشرقة. لكن الأشياء المشرقة تبدو الآن بعيدة. هذا الكتاب قُصد منه أن يجعلها قريبة مرة أخرى».
كيف يمكن للكاتبين تحقيق هذه الوعود الطموحة؟ العنوان الفرعي للكتاب «قراءة الكلاسيك الغربي للعثور على المعنى في العصر العلماني» ربما يدفع المرء للاعتقاد أن توصيات الكاتبين ستكون حول قراءة المزيد من الأدب باعتبار أن الكتب العظيمة في الفكر الغربي تنطوي على تلك «الأشياء المشرقة» المحيرة.
في الحقيقة، باستثناء هومر وميلفيل Homer and
Melville، فإن المؤلفين الكنسيين وضعا بعملهما الرائع التفسير التاريخي لكل الأشياء المشرقة، وأن النقطة الاستثنائية والمزعجة أحياناً في الكتاب باعتباره رحلة دالة مكثفة للفكر الغربي، هي ليبيّن كيف وأين أخطأ الفكر الغربي: كيف قادنا مفكرونا التقليديون الكبار بعيداً عن جنة هوميروس التي كنا فيها يوم ما لنجد أنفسنا الآن في مناخ روحي ومعنوي كئيب.
وهكذا اتُّهم أوغسطين بصياغته للمسيحية بطريقة «لا تخلق معنى لتجسيد المسيح المجسّد»، أما دانتي فقد أضاع فرصة التصحيح هذه باختياره تفضيل الألوهية المجردة على عذاب الحب البيتريسي»1» بعيد المنال، وما هو اكثر تدميراً ربما عقلانية ديكارت وتأكيده على أن الذات الداخلية تسبب اغتراباً عميقاً ينهي الارتباط الطبيعي بالعالم الذي تمتع به الإغريق القدماء حين أدركوا أنفسهم وفقاً للأمزجة العامة والمشتركة، فكانوا منفتحين على العالم بطريقة يصعب إدراكها من جانبنا نحن الذين ننظر إلى الأمزجة كخبرة خاصة.
لاحظ ديكارت وكانط أن التأكيد على السيادة الفردية وتجلياتها المعاصرة تتجسد في الروائي ديفيد فوستر والس David Foster Wallace، الروائي المبدع الذي جسّد في انتحاره اليأس المعاصر. «ما هو مقدس لدى والس هو شيء ما نفرضه على التجربة، لا يوجد شيء من ذلك على الاطلاق». هذا يبدو مرة أخرى في تناقض واضح مع استعداد اليونانيين القدماء للتكيّف مع الواقع الخارجي. وكما يلخص المؤلفان المسألة، «الرؤية الحديثة بأننا مسؤولون كلياً عن تجاربنا إنما تقف في تضاد راديكالي مع الفكرة الهوميروسية بأننا نعمل أفضل ما في وسعنا حينما نفتح ذواتنا لنكون منجذبين نحو الخارج».
كيف إذاً نتجاوز العدمية القائمة على الحرية وفق أفكار ديكارت وكانط ووالس، ونعيد إنجاز طريقة هوميروس اليونانية الطبيعية والفورية في أن نكون في العالم؟ جواب الكاتبين هو معقد وغامض وربما محبطاً. فمن جهة هو يستلزم بناء مواقف جرى تجاهلها منهجياً في حياتنا المعاصرة: الامتنان، الإعجاب، الحب. ومن جهة اخرى يتطلب أن نكون في آن واحد واقعيين وتعدديين حول القيمة، عبر تعلّم رفض الشك والتوحيد. علينا أن نتوقف عن البحث المستمر عن المعاني المختبئة، ونقبل المتع السطحية والسعي الهادف في ظاهره نحو القيمة.
إن أنواع المعرفة والمهارة المطلوبة في الأعمال الحرفية الجادة مثلاً هي ذات مغزى وقيمة بطريقة تبدو فيها بطبيعتها ضد العدمية.
وما هو اكثر غرابة ربما ادّعاء كيلي ودرايفس أن جمهور الرياضة يمكنه تقديم تجربة عامة مشتركة عن النشوة الجماعية. حتى الشيء البسيط جداً مثل فنجان قهوة قد يكون ممتلئاً بالمعنى لو جعله المرء احتفالاً طقسياً ذا مغزى بذاته أو ببيئته بدلاً من أن يكون عاماً وأداءً لوظيفة بلا معنى.
بعض القراء قد يجدون هذه الأمثلة تافهة حد السخرية، وسوف لن تتأثر عواطفهم بفكرة أن الراحة والامتنان لوجبة طعام عائلية قد تكون الأساس في هزيمة الاغتراب العدمي. والبعض قد ينزعج من ضحالة كتب تاريخ الفكر الغربي. هذه الشكاوى ربما تكون مبررة. لكننا لانزال يتوجب علينا تقدير المساهمات الأصلية والمثيرة أحياناً لدرايفس وكيلي في الحديث عن المعنى والقيمة حتى لو كانت طريقتهما في النهاية، في التعامل مع مشاكلنا الروحية والفكرية هي بدرجة ما توحي أنهما يشعران بالشك فيسألان، مرة أخرى: ما هي المشكلة؟
Troy Jollimore بروفسور الفلسفة في جامعة ولاية كاليفورنيا. هو مؤلف كتاب رؤية حب Love’s Vision الصادر عام 2011 عن جامعة برنستون بالإضافة إلى كتابين آخرين في الشعر.
الهوامش:
«1» الحب البيتريسي إشارة إلى الشابة Beatrice «1266- 1290 « التي تنتمي لمدينة فلورنس الإيطالية، وعُرفت بملهمة الشاعر الكبير دانتي، فكانت الحافز الرئيسي له في كتابه «الحياة الجديدة» Vita Nuova عام 1295 وهو تعبير عن الحب الرقيق في القرون الوسطى. وكذلك كانت بيتريس المرشد الروحي لدانتي في الكوميديا الإلهية. كان أبوها Folco Portinari يعمل مصرفياً. يذكر دانتي أنه قابلها مرتين فقط، تفصل بينهما تسع سنوات لكنه تأثر جداً بهذين اللقاءين اللذين حملا حبه لها طوال حياته.