خاصة في هذا العصر الذي تحول فيه العالم إلى قرية كونيّة صغيرة، بتأثير ثورة المعلومات والاتصالات والتطورات التكنولوجيّة المذهلة التي لم تقف عند حد،
ولا يبدو أنها فاعلة ذلك في المستقبل، بدليل اختراق هذا السيل المتلاحق من الاختراعات والإضافات العلميّة والتكنولوجيّة الشاملة لمرافق حياة الإنسان المعاصر كافة.
هذه الأيام، تزداد هواجس الفنان التشكيلي السوري، وتتعاظم وتيرتها، بتأثير ما يشهده الوطن من تحديات وصراعات ومشاكل تتقدمها هبوب رياح عولمة ماكرة طامحة إلى فصله عن جذوره الممتدة عميقاً وبعيداً في تربة الحضارة الإنسانيّة، وإلغاء تراثه العريق الرافل بأسمى القيم الإنسانيّة، وأنبل الأهداف التي وازنت ببراعة وانسجام، بين حاجة الإنسان الماديّة وحاجته الروحيّة، وتالياً تذويب كيانه وخصوصيته وتفرده، تمهيداً لإلغاء هويته، وخلق الأنموذج الواحد، لكل الشعوب والأمم، لأهداف خبيثة، لم تعد خافية على أحد.
الهوية والتراث
أمام هذا الواقع الزاخر بالتحديات، وفي إطار من التوجه الوطني والقومي والإنساني النبيل، وجد الفنان التشكيلي السوري نفسه أمام خيارات عديدة، لصون نفسه وهويته وتراثه، من هجمة التذويب والتضييع والاعتداء المتربصة به، ومن ثم، إثبات وجوده الحضاري الفاعل والمتفاعل، فيما يجري حوله، عبر اللغة التعبيريّة العالميّة الهامة والمؤثرة التي يشتغل عليها، والقادرة على السفر إلى الناس في كل أصقاع العالم، لمصافحة عيونهم، وملامسة أحاسيسهم، والتحاور مع أفكارهم وعقولهم، ذلك لأن الفنون التي يشتغل عليها هذا الفنان كالموسيقا، لغة عالميّة، لا تحتاج إلى ترجمة أو شرح أو وسيط، للوصول والتفاعل مع المتلقي، أياً كانت جنسيته، أو لغته، أو حتى ثقافته!!
لقد وجد الفنان التشكيلي السوري نفسه، أمام عدة خيارات، لمنح منجزه الفني الذي يشتغل عليه، خصوصية الأرض التي جاء منها، والإرث الحضاري الكبير والمتلون الذي ينتمي إليه، ضمن إطار العصر المتحول الذي يعيشه، مضمناً إياه رؤاه ومواقفه الذاتية، مما يجابه من تحديات، متماهيةً بثقافته النظريّة والبصريّة التي كونها بالبحث والتجريب والدراسة والإطلاع. وبتنوع التحديات، تنوع بحث الفنان التشكيلي السوري عن الصيغة الأمثل، للخروج بمنجز فني يعكس هذه النزوعات والتطلعات، عبر لغة تشكيليّة حديثة. وقد شمل بحثه شكل المنتوج الفني ولغته البصريّة، كما شمل مضمونه أو فكرته، مدفوعاً بتوق كبير لإقامة حالة عالية من التوافق والانسجام، بين هاتين الخصيصتين الأساسيتين لأي عمل إبداعي، يطمح للوصول إلى الناس، والتأثير بهم، وكسب احترامهم وتقديرهم.
بدأ الفنان التشكيلي السوري بالموضوعات والمضامين الوطنية، فأخذ البنية الشعبيّة للإنسان السوري وهمومه وقضاياه وتطلعاته ورموزه الخاصة، ثم وسع الدائرة لتشمل الحالة العربيّة فالإسلاميّة، وذلك عن طريق البحث في المعطيات التراثيّة العربيّة والإسلاميّة وما تمخض عنها من فنون اتسمت بالجمع الموفق، بين القيم الجماليّة والاستعماليّة في العمل الفني. في البداية انكب على استلهام التاريخ البعيد للأمة، فاستل من الموضوعات الدالة على حضارتها بعض الرموز والمفردات.
ثم استلهم المحطات البارزة والمشرقة في هذا التاريخ. ثم انكب بعدها على فنونها، فأخذ الزخارف والخطوط وأعاد صياغاتها، وفق رؤية معاصرة، ثم عاد واصطفى الحرف العربي، معتمداً إياه المعمار الأساس في لوحة أطلق عليها اصطلاح «الحروفيّة» سرعان ما تطورت وانتشرت لتشكل تياراً حاضراً في الحياة التشكيليّة السوريّة والحيوات التشكيليّة العربيّة بشكلٍ عام. تيار دخل إليه الفنان التشكيلي السوري والعربي، من باب البحث عن فن قومي، لأن الخط العربي في الأساس، من الرموز القوميّة، لكن لم تكن مساعي هذا الفنان من أجل مزاوجة الدلالة التجريديّة والجماليّة للخط العربي، مع قيم التشكيل المعاصر، بالمسألة السهلة،
بل كانت على الدوام، مهمة شاقة وصعبة، ولا تزال كذلك حتى الآن.
لقد اعتقد بعض الفنانين التشكيليين السوريين، أن المضمون المعاصر المقدم من خلال صيغة فنيّة تشكيليّة مستمدة المفردات والرموز، من البيئة المحليّة، قد يكون كافياً، لتأكيد هويّة بصريّة خاصة. واعتقد بعضهم الآخر، أن استخدام الحرف العربي، والزخرفة العربيّة الإسلاميّة، أكثر ملاءمة لتحقيق المراد. آخرون لم يشغلوا بالهم كثيراً في هذا الهم، فعكفوا على تقليد التيارات الأوربيّة المعاصرة، بغثها وثمينها، فقاموا بتكرارها موضوعاً وشكلاً. وهكذا تعددت واختلفت نظرة الفنانين التشكيليين السوريين إلى عملية المواءمة بين التراث والمعاصرة في منجزهم البصري. ما عمّق أرقهم، ودعاهم إلى التململ والبحث عن التمايز، زحمة التيارات والاتجاهات الفنية التشكيليّة الأوربيّة التي اكتسحت بلدانهم، وانتقلت إليها بكثافة وسرعة قياسيّة، صابغة ثقافتها بصبغتها، وملونة فنونها بألوانها.
فقد وصلت إلى الساحة التشكيليّة السوريّة المعاصرة كافة المدارس والاتجاهات والأساليب والصيغ الفنيّة الأوربيّة الحديثة، وأمامها كان لا بد للمشتغلين في حقولها المختلفة، من وقفة مراجعة وتأمل وبحث، عن الصيغة الأمثل للخروج بفن معاصر خارج دائرة الاستنساخ البارد، أو التكرار الآلي، أو التقليد الأعمى. فن يحمل نبض الأرض التي يقف عليها، وتاريخ وتراث إنسانها، ويحمل في الوقت نفسه، نبض عصره، بكل أبعاده الكشفيّة الهامة والمذهلة.
التراث والمعاصرة
وبالتدريج، بدأ الفنان التشكيلي السوري يسعى لحل هذه الإشكاليّة الهم، فعمد إلى المزاوجة بين التقنية الأوربيّة والمضمون المحلي، المستلهم من الحياة حوله، أو من التراث الذي اختلفت النظرة إليه، وتباينت الاجتهادات بضرورته للمنتوج الإبداعي المعاصر أو عدمها.
هذا السجال لازال قائماً في الحركات التشكيليّة العربيّة كافة، بل وفي الحيوات الثقافيّة عموماً، لأن هم المواءمة بين التراث والمعاصرة، هو هم عام طاول كافة ألوان الثقافة العربيّة المعاصرة، ومنها الثقافة البصريّة المتمثلة بالفنون التشكيليّة والسينما والتلفاز والمسرح وغيرها، ولازال الشغل الشاغل لغالبية العاملين فيها.
ما يسجل للحركة التشكيليّة السوريّة المعاصرة، استقبالها للتيارات والاتجاهات التي أفرزتها الحياة التشكيليّة العالميّة، ثم قيامها بهضمها وتمثل كل ما هو متزن وجاد وعميق وحقيقي فيها، ولفظها للغث والطارئ والشاذ والآني والعابث والمريض الذي طفح على جلد الفن العالمي المعاصر، خلال النصف الأول من القرن الماضي، والذي سرعان ما قامت الدول المصدرة له نفسها، بالتخلي عن هذه الاتجاهات ولفظها، بعد وصولها إلى طريق مسدود، واكتشافها لبؤسها وخوائها.
بمعنى أن الحركة التشكيليّة السوريّة، لم تتأثر بفنون الصرعات العابثة الضائِعة والمُضيعة والتي أخذت أكثر من مسمى أو مصطلح، منها: الدادائيّة، والتجريديّة، والطليعيّة، وما بعد الطليعيّة، والمفاهيميّة، والتركيبيّة.. وغيرها، وذلك لأنها مُحصنة ومُصانة، بوعي والتزام الفنان التشكيلي السوري، وجديته في البحث والتطور الهادئ، المتزن، المفيد، والمكرس للثقافة الإنسانيّة الرفيعة القادرة على أن تبقى وتعيش وتستمر، أما الهواجس والإشكالات الأخرى، التي عاشتها وتعيشها، حركة التشكيل السوري المعاصر فهي لا تقتصر عليها فقط، وإنما تطول الحركات التشكيليّة العالميّة كافة: في الشرق الأدنى وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، خاصة بعد أن شعر الفنان التشكيلي في هذه الدول، بالخطر الداهم الذي يحمله تيار العولمة إلى ثقافته الوطنيّة، وموروثه القومي، ووجوده كإنسان كانت له مساهماته الكبرى في صنع حضارة الإنسان.
هذا التململ الذي يعيشه الفنان التشكيلي السوري المعاصر، مظهر صحي وصحيح، يؤكد وعيه الشديد، وصدق انتمائه لأرضه وشعبه وأمته، وتالياً إخلاصه لفنه وأدوات تعبيره، ووضوح رؤيته ورؤاه، لما يجري حوله، لا سيما في هذه الأيام التي يتعرض فيها وطنه لأكبر وأشرس هجمة عالمية، تستهدف كيانه الفسيفسائي المتفرد، الذي يُشكّل أهم روافع حضارته، والينابيع التي غزتها. ما يجعلنا مطمئنين لمستقبل الحركة الفنيّة التشكيليّة السوريّة المعاصرة، إصرارها على أن تكون ابنة عصرها، وابنة الأرض التي جاءت منها في الوقت نفسه.