بل معناه أن أقدم الآثار الأدبية التي خلّفها الإنسان هي الشعر. ومن أسباب ذلك أن الأدب المنثور يتطلب معرفة الكتابة، والكتابة اختراع متأخر في تاريخ كل أمة،
وأما الشعر فينقل بالرواية، كما لا يمكن الاعتماد على النثر المروي لسهولة التحريف فيه. ثم إن النثر الفني هو لغة العقل، أما الشعر فلغة الوجدان. والإنسان يشعر بوجدانه قبل أن يفكّر بعقله، ولذلك لم يظهر النثر الفني إلاّ بعد أن أخذت الجماعات بحظّ قليل أو كثير من الرقيّ العقلي.
ولم يظهر الشعر العربي كما نعرفه في ما وصل إلينا من أدب الجاهلية، وكما نعرفه اليوم، بل سبق هذا النضوج تطوّر في المعنى وفي المبنى، وكان هذا التطوّر طويلاً. وقد قيل إن الحداء أصل الشعر وإن أوزان الشعر العربي رتبت على وقع أقدام الإبل. ومما لا شك فيه أن الشعر العربي كان، من أصل وضعه، ذا ميزات خاصة، تقوم على ألفاظ منتقاة، مرتبة ترتيباً موسيقياً خاصاً يتألف من ذلك الترتيب ما نسمّيه الوزن الشعريّ، ثم على ألفاظ تنتهي بحروف متشابهة هي بمثابة قرار لتلك الموسيقى، تسمى قافية.
ويرى بعض النقاد أن السجع سبق الرجز، وقد اتفق مؤرخو الأدب على أن الرّجز أقدم أنواع الشعر تاريخاً. وكان الوزن والقافية يساعدان على الإنشاد، كما يجعلان الشعر شديد الارتباط بالغناء، ولا عجب «فالشعر يشتمل على موسيقى الألفاظ، والغناء يشتمل على موسيقى الألحان». ومما يرجح أن العرب كانوا في بدء أمرهم ينشدون الشعر كما كانوا يتغنون به وذلك وفقاً لما تقتضيه الأحوال.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الحديث عن هذا الأدب مهم جداً في التحليل وفي معرفة الغاية التي يتوخّاها الباحثون من دراسة النثر الفني، ولماذا يعكفون على دراسة النثر الفني أصلاً؟ ولماذا يدرسه الأكاديميون والمختصون، ولماذا نطلق علية النثر الفني؟
وهذه المقدمة العامة عن النثر، وهي من الأهمية بمكان، تفيد جداً في التحليل النظري. ومن المعلوم أن النثر لغة مشتق من مادة نثر، التي تدل على تفريق الشيء من دون نظام. نثر الكلام: صاغه نثراً غير موزون ولا مقفى، وهو خلاف النظم. فالكلام المنثور هو الكلام المرسل على غير نظام وزني مطرد كما في الشعر. وهو على أنواع، منه:
الكلام العادي الذي يتوسل باللغة المحكية السائدة: ويكون غرضه التواصل والتخاطب بين الناس لتحقيق غايات نفعية أو إبلاغية، كالتعبير عن الذات والرغبات، ونحو ذلك. وهذا النوع لغته ليست أدبية، لأنها فقدت قدرتها على الإدهاش والإثارة، فهي سوقية باردة مبتذلة، تلوكها الألسن باستمرار «لغة مستهلكة».
أما النثر العلميّ، وهو الذي يعتمده العلماء في تدوين شروحهم ومعارفهم وعلومهم، ويقوم كما هو معروف على المنطق، والفكر السليم، ومخاطبة العقل، وشرح الحقائق العلميّة، وعدم استخدام المجاز إلاّ عفو الخاطر، أو لتقريب الحقائق العلمية إلى الأذهان؛ حيث قلّما نجد عالماً متخصصاً يكتب بلغة أدبية مشرقة، إذ يجب علية أن يكتب بلغة علميّة.
ومنه أيضاً النثر الأدبي أو الفنيّ: وهو الذي يعنينا في دراستنا للأدب العربي، والذي تتوهّج لغته حرارة وعاطفة وانفعالاً، وتكون قادرة على إثارة الدهشة الحيّة، والانفعال العميق، والكشف الباهر في كل صياغة جديدة، فهي لغة ذات سحر خاصّ، ومن هنا يكون تعريف النثر الفني، بالقول: «هو ذلك اللون من التعبير الذي يفتنّ فيه كاتبه لإثارة المتعة الفنيّة في نفس القارئ أو السامع، وقلّما يأتي ذلك عفو الخاطر». وبتعبير آخر: النثر الفني هو كل كلام يشتمل على جمال في صياغته وأسلوبه، فهو تشكيل: أي بنية، لغوي: أداته اللغة، معرفي: لأنه يهدف إلى إثبات معرفة، أو التعبير عن فكرة معينة، أما بالنسبة لكونه جمالياً، فذلك لكون لغته قادرة على إثارة المتعة الجماليّة». ومن المعلوم أن الشعر يتناول الأحداث والأفكار بطريقته الفنّية التصويرية، ككثير من قصائد الشعر العربي، كما في قصيدة أبي تمّام في وصفه معركة عمّوريّة التي مطلعها:
السيف أصدق أنباءً من الكتب/ في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب.
وقصائد المتنبي في وصف معارك سيف الدولة الحمداني. «فهذا الشعر لا يتّخذ كوثيقة تاريخية سياسية من الدرجة الأولى، بخلاف النثر الذي هو لسان حال الدولة ولاسيما الرسائل الديوانية والمعبّرة عن أحداث التاريخ».
فالوصف في القصائد المدحيّة في الغالب تصويريّ، يقوم على أساس جماليّ في المقام الأول، أي أن هدفه أولاً تحقيق المتعة الفنيّة في المتلقيّ. أما الأساس المعرفيّ فيتمثّل في النثر الذي ينقل أفكاراً محدّدة باطّراد وتتابع، وعلى نحو وصفيّ تقريريّ، يعتمد البراهين العقلية والتفصيل الدقيق للأفكار، والجدل، والبعد عن التهويل والمبالغة، والقرب من الحقيقة في كثير من الأحيان. فالنثر لغة العقل أولاً، والوجدان ثانياً. أما الشعر فلغة العاطفة والوجدان.
وقد ذكر أبو حيّان التوحيديّ «ت 414 هجرية» أنّ النثر من قبل العقل، والنظم من قبل الحسّ «يقصد به الشعور والعاطفة». إلاّ أن ذلك لا يعني أن الشعر لا يقرّر ويصف ويحتجّ، أو أنّ النثر لا يرمز ويعمّم ويكون شديد التكثيف والإيحاء، ويعتمد التصوير والمبالغة والتهويل بقصد التأثير والدعاية، وغير ذلك، كبعض الرسائل الديوانية، والخطب السياسية. ويدخل في إطار النثر الفني أيضاً رسائل الخميس في العصر العباسي، والتي كان لها الأثر الكبير في الحركة الأدبية في ذلك العصر. والمقصود بها رسائل الجيش، لأنه مقسّم إلى خمس فرق، كانت تكتب من الخلفاء العباسيين موجّهة إلى خراسان، حيث الجيش الذي تمكّن العباسيّون من خلاله من إزالة الدولة الأمويّة في المشرق، وكانوا يسمّون باب خراسان في بغداد باب الدولة، لأن رايات الدولة العباسيّة أقبلت من خراسان.
والمهم في الأمر كلّه أنّ أدبية النص النثريّ وجماليته قد تفوق أدبية النص الشعريّ، فقد يكون الشعر نظماً ذهنيّاً جامداً لا روح فيه، وإنما فكر ومعرفة، ووزن وتقفية، كما هي حال المنظومات العلميّة، وكثير من شعر العلماء. فالحكم غالباً على شعريّة النص، أو أدبيّته يعود إلى رجحان الوظيفة الجمالية على الوظيفة المعرفية.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن النص في العقل العربي يتحدد بناءً على جدلية المفاضلة، حيث تتموقع النصوص تراتبياً، فالأسبقية للنص العلمي الذي تقام على أسسه في زعم العقل العربي معالم التطوّر المادي، ثم بعد ذلك يأتي النص الأدبي الذي لا محل له في عالم الواقع حيث يهيمن عليه التخيّل. إلاّ أنه يثير حساسيّة القطيعة مع المنجز النصيّ التاريخيّ، ويبدو لي من خلال متابعة التنظيريّة أن مربط الفرس هو في عدم القدرة على تجاوز هذا المنطق الذي يغرّب الفعل الشعريّ العربي داخل أطر الآخر التنظيريّة، وهو ما أدّى بالفكر العربي إلى عقد مراجعات لا داخل البنينة «مفهوم بارثي» الشعريّة، بل في المحيط الإبداعي للمنجز النصيّ عامة.
ولمّا كانت اللغة فعلاً يتوازى مع حركية الحياة الإنسانية، فيمارس الإنسان فعله في اللغة، فإن اللغة بوجودها الحي، هي «فعل يحيل إلى الواقع، ويعرف بكونه يمارس على أرضه»، لذا يمكن أن تصبح اللغة مشاعاً إنسانيّاً كبيراً وواسعاً في آن، لاحتمالات التغيير التي تحدث في طريقة القول والتركيب، والانبعاث والتجدد، والانطلاق من حيويّتها، لتجاوز أي فعل مكرر، أو مسعى مبتذل، أو نمط سائد معزول عن القيم المتغيّرة والمتجددة في الحياة. ولعل هذا ما يجعل كثيراً من الأفعال تبدو وكأنها «فعل مشبوه، لا تسمح ممارسته أن يكون ذا فعالية تذكر، قياساً بالأفعال المتكاملة التي تتعلق بالإنسان والتي يوصف بها تحرّكه».
وقد يؤدي هذا الكلام إلى أن الاعتقاد بأن العرب لم توله أهميّة، والواقع أنهم عدّوه عنصراً هاماً، وفارقاً في تشكيل الخطاب الشعري، لكنهم في الوقت نفسه، أدركوا أنّه عنصر من عناصر البنية الإيقاعية، التي مردّها إلى الطبع والذوق، وبمعنى آخر، أدركوا أنّ الإيقاع كامن في الذات المبدعة، وما الوزن إلاّ بعد من أبعاده، زيادة على أنّ البحور الشعريّة بتنوّعاتها الإيقاعية، ما هي إلاّ استقراء لتقنيّات إيقاعيّة متداولة لشعر شعراء عاشوا: «قبل وضع الكتب في العروض والقوافي»، وأنّ شعريّة الشعر، كامنة في هذا البناء الإيقاعي، الذي كثيراً ما يستمد النثر الفني بعض خصوصيّاته، لذلك نراهم يلحّون على أهميّة الوزن لأنّ: «للشعر الموزون إيقاعاً يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه. فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى، وعذوبة اللفظ، فصفا مسموعه، ومعقوله من الكدر، تمّ قبوله واشتماله عليه».
وتجدر الإشارة إلى أن النثر الفني في الأدب العربي يسير إلى مأزق من وجهة نظري الخاصة، لأن لغته ذات سحر خاصّ، تثير المتعة الفنيّة في نفس القارئ أو السامع، وقلّما يأتي ذلك عفو الخاطر، فهو -أي النثر - يتحرك بخطا واسعة، ويتقدم على بقيّة الأشكال الأدبية والإبداعية الأخرى، في الوقت نفسه فإن النثر الفني الإبداعي لا يجد الدراسة النقديّة الكافية، وبالتالي فإنّه سيحدث جماليّات يغيب عنها النقد وعن رصّدها، النقد - كما هو معروف - واسطة بين الشعر والمتلقي، وعندما يغيب النقد فإن النثر سينحرف إلى مسارات أخرى.