فقبل أن يحارب الفارس بالسيف كان يناجز بالشعر، ثم أنه كان جياشاً دائماً بالشعر، ولقد كانت عنده أماكن العبادة والأسواق، كما كان عنده الحداء الدائم في أسفاره الدائمة. ومن وراء ذلك كان دور «الرواية والرواة» في الشعر.
ولقد كان كثير من الشعراء يخرجون في حلقات الرواية المخصصة للشعراء الكبار، ثم إن الشعر بعد ذلك أصبحت له حلقاته، ورأينا من يلاحق الجماهير دائماً بالمؤلفات على حد ما يعرف من الأصمعيات والمفضليات والعديد من كتب الحماسة. وقد استمر تقديم المختارات والموسوعات حتى الآن بغزارة واضحة، وقد استمرت مهرجانات الشعر على مستوى الوطن العربي ومن بينها إحياء مهرجان المربد الشعري في العراق، وساعدت وسائل الإعلام في تقديم الشعر والشعراء بطرق عصرية. وقد ظهر مشروع عظيم هو مشروع الأعمال الكاملة للعديد من الشعراء. والملاحظ أن الناشر كان يرعى دائماً الجمهور، ذلك لأن كلاً منهما من موقع معين، لا يتوجه إلى قارئ أو مستمع عالمي وإنما يتوجه إلى قارئ عربي في مواقف محددة وفي أزمان يعينها. وقد ترتب على هذا التعامل مع قضية «الوضوح» وقضية الوضوح انبرت عند الإنسان العربي لأن أكثر أصوله الثقافية تلقاها عن طريق السماع، ثم أنه في الأساس كان تعامله مع الجمهور عن طريق النقد والاستماع وفي مسيرة التقدم القديم حملة على الإغراب والتداخل وما يسمى: «رقي العقارب» على حد ما قيل في أبيات الشاعر المتنبي.
وما نريد أن نصل إليه هو أن الشعر يصل إلى الجمهور عن طريق الأذن وعن طريق العين وعن طريقيهما معاً، فالجمهور العربي ما زال يعتبر الشعر «فن العربية الأول» ولقد ازداد الإقبال على المسرحيات الشعرية وبخاصة بعد أن رفض أن يكون الشاعر سميراً ومضحكاً ومحتالاً كبيراً، وأصر الشاعر عنى أن يكون مسؤولاً روحياً عن قيادة الحضارة وعن شق طريق لها عصراً بعد عصر وقصيدة بعد قصيدة، وبعد أن غير وطور العديد من أدواته ليكون على مستوى العصر وعلى مستوى الهموم الحقيقية للجماهير. فمن المطلوب ألا ندلل هذه الجماهير لأن علينا أن نقلقها ونريها نفسها وواقعها ونخلق لها طموحات ونرسم لها شخصيات ملحمية. ومعنى هذا ألا يكون كل وقوفنا الشعري عند متلقي اليوم، ذلك لأننا مطالبون بمخاطبة «متلقي المستقبل» فنحن نعيش الآن بين أنقاض أشياء كثيرة ويكاد يكون البكاء على عالم الأطلال له رده، ولكن يجب أن نتجاوز هذا كله.
إن في الشعر الآن مرارة ورفضاً ونفوراً من الواقع المعاصر، وهذه تكاد تكون شبيهة بما عاناه الشاعر الكبير المتنبي الذي عاش في عصر كانت فيه الحضارة العربية تشارف على الأفول، وكان المتنبي يحاول أن يبعثها من جديد، حتى ولو عانى الشعراء معاناته، حتى ولو قتلوا قتله، ذلك لأنه سيكون من وراء ذلك إحياء للشعر وللأمة.
ونرى أنه من الضروري تخطيط عدد المسارات لتظل للشعر فعاليته في ثقافة الإنسان العربي وليظل كما كان، الفن الأول للحضارة العربية، ولما كان الإنسان أهم العوامل في التنمية الثقافية، فإننا نرى الاهتمام بهذا الإنسان في مراحله كافة ليستطيع حمل رسالة أمته إلى العالم. يجب أن نهتم بلغة هذا الإنسان، ابتداء من الطفولة ثم يمتد هذا الاهتمام باللغة إلى الطفل في المدرسة ثم الجامعة وما وراءها، ثم الابتعاد قدر الإمكان عن العامية وعن التعامل باللهجات واللغات الهجينة وحراسة الصبي والشباب بالكتاب الجيد وبوسائل الإعلان.
ومن الملاحظ أن أجيال الشباب في الماضي كانت تعبر أول ما تعبر عن نفسها بالقراءة، ولكنها انصرفت الآن إلى بدائل أخرى، وذلك لأن الشباب وجد أنه ما زال محاصراً بالشعر الغنائي والنماذج السيئة منه والتي تخدم آنية تجدد من عام إلى عام. وفي الواقع لقد تغيرت وظيفة الحياة والأحياء وأصبح الذي يتمشى مع الشباب، على وجه الخصوص، هو الأدب والفنون التي تعتمد أساساً على عناصر الصراع وعلى الوصول إلى ما يسمى الذروة، فكلما كانت أهداف التعبير أقرب إلى تصوير العاطفة الفردية، كان التركيب الفني أقرب إلى شكل الذروة.
وهنا يجب أن نعترف بأن الشاعر قوة مؤثرة حقيقية في المجتمع، ولكن الملاحظ أننا نتعامل معه منذ فترة، وأكاد أقول في كل الفترات كنوع من أنواع الزينة ونستمع إلى شعره، كنوع ترويحي بين عدد من الفواصل الجادة. مر الشاعر بمراحل متعددة، فقد كان في دائرة الحكمة والفروسية وبعد فترة شاهدناه في العصر الأموي يسلي الطبقة العليا بما يسمى «النقائض» وفي العصر العباسي شهدنا ما يسمى عصر الوزراء الكتاب، ولكن لم نعثر على ظاهرة عصر الشعراء والوزراء. وحين كان يبالغ أحدهم في تعظيم دوره كما حصل للمتنبي رأيناه يقتل قتلاً بائساً.
لقد بالغ أبو حاتم الرازي حين رسم صورة مثالية للشاعر، ولعل العصر الجاهلي كان في ذهنه حين قال: «عليه يعتمدون، وبه يحكمون، وبحكمه يرتضون حتى صار الشعراء فيهم بمنزلة الحكام، يقولون فيرضي قولهم، ويحكمون فيمض حكمهم وصار ذلك فيهم سنة يقتضى بها وإثارة يحتذى بها»، ذلك لأننا نجد الكثيرين منهم بين مضروب أو معذب أو مسجون أو منفي أو مطارد أو مقتول، وقد وجدت في بعض دار الكتب في بغداد ملحوظة بعنوان «المغتالون من الشعر» وقد هالني أن عددهم كبير، ومعنى هذا أن المجتمع كان يضيق بهم وكان لا يقبل منهم إلا أسلوب الإمتاع والمؤانسة، وهكذا وصل بهم الحال إلى أن يعبر أحدهم عن هذه المأساة بقوله:
الكلب والشاعر في حاله/ يا ليت إني لم أكن شاعراً
أما تراه باسطاً كفه/ يستطعم الوارد والصادرا
وفي مقابل هذا في الشعر المعاصر وجدنا التعامل داخل دوائر عدمية، كالاغتراب والاستلاب والغثيان، ومن ظل هذا نرى لا غنى للشعر المعاصر من الإفادة من الآداب والفنون بل ومن العلوم، وما لم يفعل الشعر ذلك فإنه سيذبل ويموت. ومن هنا يكون من الضروري أن نغلب المقولة القديمة ونقول إن الشعر الآن مستطيع بغيره ولابد من أن يفيد من أشياء كثيرة في الحياة.