إنه (سليمان العيسى) الحلم النادر والثائر بكلِّ ما من شأنه أن يردّ الحرف حيَّا, وبذاكرةٍ أراد البرنامج أن يكتشف سرَّ سحرها, ليدعها تُوثِّق لمسيرتها الشعرية, وبمقدمةٍ هي الرسالة التي وجَّهها (العيسى) إلى قريته (النعيرية) حيث تجمهر الأهل والأحبة مع الوفد الذي أرسله اتحاد الكتاب العرب للاحتفاء به, وكشاعرٍ قارب التسعين عاماً ومازال مسكوناً بالكلمة والعروبة.
لقد كان البرنامج أشبه بروايةٍ ذاتية, تقصَّدت مُعِدَّته (الهام سلطان) بأن تقدِّمها على شكلِ فصولٍ هي من يروي لمضمونها, لتقوم وبين كل محطة ولقطة, بتسليط النور على ما نتوقُ لمتابعته ومن خلال التعقيب والتعليق وعرض الصور التي تنساب معها مفردات الشاعر, وهي لقريته وأحبَّته وأماكن طفولته ولكلِّ ما جعل ذكرياته تتدفق كتدفُّق العاصي لتستظلّ بعدها بشجرة التوت التي ألهمته أولى مفرداته الشعرية.
إنها المحطَّات التي وثَّقَ لها (العيسى) بنفسه. ولأجل أن تبقى نقشاً يُحفر في ذاكرةِ حتى من لا ذاكرةَ له. فهاهو يروي أولى محطاته, وبشغف الراغب بألا يغادر زهو طفولته وأسرته وبيئته وبساتين قريته, وأيضاً مدرستها الوحيدة. بيت والده (الشيخ أحمد) الذي ومثلما كان له الفضل في شاعريته وتربيته, كان له الفضل بوضع قطرات النور الأولى في عيون أطفال القرية بل وأطفال الريف المجاور الذين قسَّم لأجلهم بيته المؤلف من طابقين, فجعل أحدهما لأسرته والآخر لتدريسهم وإلى أن أتمُّوا ما سعوا إليه ومنهم ولده (العيسى) الذي تابع في مدرسة أنطاكية الوحيدة, وبموهبة أدهشت الأساتذة والطلاب وفرضت عليه لقب الشاعر.
ولأن المحطات في حياة الطائر الحلم لاتُعدُّ ولاتُهمل, استمر البرنامج يجذبنا إلى المزيد مما نشتهي ويشتهي الراوي وكذلك الشاعر الذي كان يتوقف بين كلِّ ديوان وذكرى, ليتلو من القصائد ما يُخلد به محطاته. الدراسية بتنقلاتها والنضالية بسجنه الذي لم يمنعه من متابعتها والشعرية بمراحل إبداعاتها والعشقية بديمومتها.
بيدّ أنَّها المحطة التي أرادت معدَّة البرنامج أن تجعلها (مسك الختام) ومع الدكتورة (ملكة أبيض) زوجته التي كانت طيلة رحلة الحلم, تؤيِّد وتدعم وتفخر بالشاعر الذي التقاها في حلب فأحبها شريكة حياته وأم أولاده, لتتعاهد وإيَّاه, بأن يبقى عناقهما أبدي الوفاء وانطلاقاً من اليمن حيث رافقها في رحلة تدريسها هناك ولمدة خمسة عشر عاماً ليعودا إلى دمشق فتعبق بهما وإلى أبد المبدعين..
أخيراً, ولأنَّ البرنامج نقَّب فاستكشف وصوَّر وقدَّم كل ما أردناه من (رحلة حلم) فقد أبى أن يودِّعنا إلا ببعض ما اختلجت به حياة الشاعر, ومن شعر هو العروبة التي تجري في دمه لتنبض خلاياه. إنها خلايا دمشق الحضارة في (أنا ودمشق) وفلسطين في (أنا والقدس) ولبنان في ( ديوان لبنان) وغيرها من الخلايا التي تبحث عن مثيلاتها لتتحرَّك في جسدٍ واحد وبما يردُّ العروبة حيَّة.