تشي بالكثير من الحذر في طريقة عبورك إلى أماكن شعورية ذات حساسية وعرة وتلزمك الكثير من الحنكة في التعامل مع ظلالها اللغوية التي تخفي أفخاخاً و مصائد لا يمكن التكهن ابداً في أي وقت يمكن أن تصطادك بها, نصوص تنفلت على بياض مستمر لا نهاية له ، كأنه بياض الأبدية الذي يجري دون آن يشعرك باللهاث أو الجهد و دون أن تقف القراءة عند سطر أو نهاية مقطع , فثمة وراء كل سطر فضاء مفتوح من المخيلة المبدعة التي تظل تشتغل على طول بياض الصفحة و في نهاية كل مقطع ثمة أصوات خفية تظهر أو تختفي مع صعود و خفوت اللغة نفسها , كأنك في زيارة لغوية عابرة حيناً أو وقفة بلاغية حيناً آخر و كل ذلك ضمن رقعة شعرية فسيحة سمتها الأولى و الوحيدة هي وحشية اللغة و بدائيتها و ذلك عبر تقلبات الذات الشاعرة و استنفارها اللامنقطع .
فالنصوص ( إلايّ ) هي سلسلة مترابطة من نص واحد أو من جسد واحد بدءاً من وحدة الموضوع التي هي ( الحلم ) و ما يؤول إليها أو تستند عليها كفعل الرؤيا أو عمل الرؤية ( الواقع ) و انتهاء بوحدة سيمياء الجسد التي هي ( النص ) و ما يتبعها من انتقالات المحسوس إلى المتخيل ، و تعاضد الحياة مع الموت و تبادل الواقعي مع المرئي في ركض و جريان مستمر نحو إيقاظ الكلمات من سباتها و جمودها و إفراغها من فلسفتها و تناقضاتها التي تثقل اللغة و تبطئ تدفقها :
( فيما يَرى النائِمُ:
كَانَت النجومُ تَرقصُ في تسبيحِها الليليّ.
تَلهَجُ ألسنَتُها بحمْدِ اللغَةِ.
فاصطدَمَتْ بشهابٍ ثَاقِبٍ.
التقطَته نجمةٌ مُراهِقَةٌ.
أعطته في لحظَةِ طيْشٍ فَلكيَّةٍ قُبلَةَ الحيَاةِ فاسْتفاقَ فراشَة.
وكانَ أن انمحى فيها مجدَّداً..)
فاتنة الغرة شاعرة مدفوعة إلى محاكاة جسدها ولو من برانيته أو سطحه إن صح التعبير هنا , فهي تسكن جسداً مائياً متحركاً زلالاً ونقياً كنقاء اللغة و نقاء ذاكرتها التي تمضي بها لتخاطب الأرض الأولى والسماء الأولى و تحضّر للكون مفاجأة وجودها،
( أنا آخر سلالة الأنوثَةِ الطَّازَجةِ والمعتَّقة.) لكنها مع ذلك تعترف بالخطيئة الكبرى التي أوصلت أبناء جلدتها إلى الرذيلة و الفسق وجعلتها ابنة اللهو و الفسق و ابنة السواد و الخيبات، و تعترف ايضاً قدرة المرأة في إيجاد نوع من التوازن في الكون عبر جمالها و حضورها الآثرة في وضع الحلول لكل ما حلت بالبشرية من كوارث و ويلات ، فهي صاحبة الحلم الأول للإنسان و ملهمته الأولى إن لم تكن الأبدية هي سره و حتفه ايضاً :
(أنا آخر سلالة الأنوثَةِ الطَّازَجةِ والمعتَّقة.
أفتحُ ذراعيَ فيبدأ الكون دورته الأحادية الاتجاه.
أبتسم.. فيقطر العسل من شفاهي البكر اللعوب.
أخطو.. فتفقِد الكرة الأرضيَّة توازنها
وحينما تجلْجِلُ ضحكتي تسمع أجراس الزلازل والبراكين تخلخل أنظمة الطبقات السبع .
و تحت مقطع ( اللذة شرك ) تفاوض فاتنة جسداً آخر غير جسدها أو كأنها امرأة بجسدين منفصلين , جسد وحشي بدائيٌّ يعيش على اللذة المستباحة التي لا تعرف حدوداً للشبع و جسد آنيُّ يقبع في ذاته أو يقتات لذته من كبته ووجعه، فاللذة هنا معصية و هلاك و ما على الشعر إلا أن يسترد هذا الجسد الهش نضارته و خضرته :
(وَحدَهُ في السَّماءِ
ووحْدِيَ في سَريريْ
وما بيني وبينَه .. صِياحُ ديكْ...
تبدو تجربة فاتنة الغرة الشعرية غريبة على الشعر الفلسطيني وذلك في طريقة كتابتها لنص مفخخ كثير الدلالات و الإيحاءات ويحمل الكثير من المغامرة سواء على صعيد اللغة أو البلاغة و هي الشاعرة الفلسطينية الوحيدة تقريباً التي تتناول موضوعات تنطلق من الجسد و تنتهي بالمحرمات التي قلما تجدها في الشعرية الفلسطينية .
فاتنة الغرة ( إلايّ ) شعر
الطبعة الاسبانية 2010