وهل ظل جانب منه لم يدرس ويمحص ويقلب على أكثر من وجه ولم يخضع للنقاش والأخذ والرد بين محبي هذا الشاعر العظيم وبين منتقديه وكارهيه؟!
إن المتنبي شخصية فذة في تراثنا الأدبي ومحبوه وقراؤه وحفظة أشعاره أكثر من أن يتم إحصاؤهم، وأكثر خطورة من أن يتم الاشتباك معهم دون تحضير واستعداد مسبقين، فهم على معرفة واسعة بشعره وبالكثير من مراحل حياته وتفاصيلها وحميتهم في الدفاع عنه أو في مهاجمته لا تقاس، وبالتالي فالصورة المسبقة عنه أكثر إلزاماً، والصورة المتخيلة عنه التي رسموها له، أكثر التصاقاً بالمخيلة من أن تتم مناقشتها وعلاقته بالهوية القومية أكثر تجذراً وخطورة ، وهذا ما يجعل التطاول عليه ، بالنسبة للكثيرين، تطاولاً على واحد من «قيم الأمة ورموزها» ولكن المبدع الراحل ممدوح كتب عن المتنبي بعد أن اشتغل عامين كاملين في قراءته وتحليل شعره ودراسة تفاصيل حياته من أجل كتابة مسلسل تلفزيوني عنه والكتابة الدرامية تفرض على صاحبها أن يتغلغل ما استطاع في نفوس أبطاله لكي يفهمهم ، وأن يتخيلهم في الحالات التي يمكن أن يكون فيها البشر وأن يرسم ردود أفعالهم بالمنطق الدرامي، كما يمكن أن تكون عليه ردود فعل البشر وذلك كله ضمن إطار المعلومة التاريخية الموثقة.
وفي مقدمة كتابه الصادر حديثاً بعنوان ( المتنبي في ضوء الدراما) يؤكد الراحل ممدوح عدوان بقوله: ( وقد حاولت إخضاع المتنبي، وتفاصيل حياته المتعارف عليها والمبثوثة في الكتب، للشرط الدرامي، وأوصلني هذا إلى بعض النقاط المتعلقة به، وبحياته، وطباعه، وشخصيته الإجمالية، وطريقة كتابته للقصيدة، وعلاقته بعصره ورجال عصره وظروف عصره، أرى من الضروري أن أطرحها للقراء) وكان أن خرج الكاتب بنتيجة ملخصها أن صورة المتنبي في أذهان محبيه ومبغضية مختلفة كثيراً عن صورته الحقيقية التي يخرج بها الدارس أو المحلل المتمعن، يبدأ ممدوح عدوان كتابه بتساؤلات أولية. إضافة إلى التناقضات الموجودة في شخصيته .والتي جعلت مؤرخي الأدب يتناقضون في الحكم عليه (هل كان بخيلاً أم كريماً، هل كان شجاعاً أم جباناً ؟ هل كان دنيئاً أم متعففاً وهل كان متزلفاً للملوك أم منافساً لهم وإضافة إلى أنك قد تستطيع أن تجد في حياته ما يدعم كلتا الإجابتين المتناقضتين في كل حالة، فإن أسئلة أخرى كانت قد ظلت معلقة بين المؤرخين دون إثبات قاطع: هل أحب خولة؟ هل أحبته هي؟ هل كان سيف الدولة على علم بهذا الحب؟ ما طبيعة علاقة المتنبي بالنساء؟ ولماذا لم يكن يشرب الخمر؟! كيف كانت علاقته الفعلية بكافور وبالإخشيديين إجمالاً ؟! وكيف قتل؟!
وهناك سؤال آخر أيضاً، فالجميع متفقون على أن ابنه قد قتل معه حين قتله فاتك الأسدي، فمن كان هذا الولد؟ كم كان عمره ؟ما طبيعة العلاقة بين الأب وأبيه؟ ثم من كانت زوجة المتنبي؟ أم الولد؟ متى تزوجها؟ كيف ؟ وإلى متى ظلت تعيش معه؟ وخاصة أن اسم المتنبي لم يرتبط بأي أمرأة أخرى طيلة حياته إلا ماهو متوقع من حبه لخولة، أخت سيف الدولة.
وكان حل هذه المسألة سهلاً- القول لممدوح عدوان- بشيء من الجهد والبحث اتضح الأمر، فبعد خروجه من السجن في حمص عاد إلى الكوفة، فوجد عائلة شامية الأصل هاجرت إلى الكوفة، وسكنت قريباً من الحيرة وقد تزوج ابنة هذه العائلة .
والتي لم يعرف اسمها، واخذها مع الولد الذي أنجبته له( محمد ولقبه المحسد) في جولته الشامية الثانية، وظلت معه إلى أن التقى بسيف الدولة عند أبي العشائر في انطاكية، وهناك وبعد أن قرر الرحيل مع سيف الدولة إلى حلب، جاءها المخاض لتلدله الولد الثاني فودع الأمير على أمل اللحاق به، ولكن هذه الزوجة ساءت أحوالها فماتت مع الولد الذي كانت ستنجبه، وبعدها أخذ المتنبي ابنة المحسد وذهب إلى حلب.
أحد أهم الأسباب التي تجعل المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس كما اتفق على وصفه، هو موهبته العظيمة والمرهبة هي السبب اللازم والكافي لتوليد الأعداء والحاسدين والمبغضين ، وبمقدار ما تولد من المحبين والمعجبين .
إن ظهور الموهبة تعاني أولاً من مسألة الاعتراف بها، إذ لا يصدق كثيرون أن هذا الشخص ، الذي لا يختلف في مظهره الخارجي وحياته اليومية عن سواه من خلق الله، والذي كان في طفولته ولداً يلهو مع الأولاد في الحي، قادراً على الاتيان بما هو استثنائي، وتلك مرحلة أولى سرعان ما تنتهي بعد أن تثبت الموهبة نفسها، وبعد أن يصبح وجودها مسلماً به لتبدأ المعركة الحقيقية حول الموهبة للاستفادة منها، فهناك من يريد استثمارها وتوظيفها لصالحه الشخصي أو لصالح اتجاه ما يكون على الأغلب من الاتجاهات السائدة (في السياسة والإبداع ) باعتبار أن الموهبة الجديدة رهان آخر على صحة الاتجاه، أو دعم له.
وبعيداً عن الاتجاهات الفنية التي يمكن الحوار حولها طويلاً ، فإن وجود صراعات مذهبية، أو سياسية أو قبلية يجعل التسابق لكسب الموهبة ضارياً، كل طرف يريدها لنفسه فيدعي انتسابها إليه، أو يريد انحيازها إليه، أو يريد على الأقل نيل اعترافها الذي يتجلى في تقديم الولاء أو المديح .
وهذا كله حدث للمتنبي. فهو الرجل الذي ينضح موهبة وهو الذي من خلال معاناته وتعامله مع عصره، كتب شعراً ، ثم اكتشف اللاحقون أنه من الصعب تجاوز ذلك الشعر، أو قرروا أنه لا يمكن تجاوزه، وبهذه الموهبة، أثار من العداء حوله خلال حياته وبعدها، أكثر مما أثار من الاعجاب. وبمقدار ما كان للمتنبي من متحمسين له نجحو في إعادة اكتشاف قيمته عبر العصور كان له من الخصوم منذ أيامه حتى يومنا هذا ، والذين لم يتركوا عيباً إلا ألصقوه به، فمن قائل بسرقته أشعاره من غيره، إلى المشهرين بكونه ابن شقاء إلى المتحدثين عن بخله أو جبنه إلى من يحاكونه وفق معايير هذا العصر ليروا فيه مداحاً للملوك، انتهازياً متملقاً متسولاً على أعتابهم ولكن شخصية المتنبي تظل إشكالية في مجالات أخرى غير مجال الموهبة، وإن كنت أرى أنها متفرعة عنها، فهناك التعصب له إلى درجة الرغبة في كسب نسبه وأصوله إلى هذا الطرف أو ذلك أو تقريب موهبته من الوحي الغيبي وكل من الطرفين ينطلق من الشعور بأن هذا الرجل لم يكن عادياً.
رؤية جديدة وجدية لموهبة المتنبي والظروف التاريخية التي نشأ فيها قدمها مبدعنا الراحل ممدوح عدوان بقلمه الذكي.
كما عودنا دائماً مع كل كتاباته سواء كانت دراسة أم رواية أم مسرحاً أم شعراً. وعلى ضوء السيناريو الذي كتبه قبل عدة سنوات جاءت دراسته عن المتنبي التي تصدرها لأول مرة دار ممدوح عدوان بإشراف السيدة إلهام عبد اللطيف .
الكتاب: المتنبي في ضوء الدراما- دراسة واجتهادات - الكاتب: ممدوح عدوان- الناشر: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع - دمشق 2010