وأول مظاهر روعتها... هذا الحشد الهائل من الغبار الذي يكاد يحجب عنّا الشمس ويصيبنا بتعذّر الفهم والرؤية والإبصار, وثاني مظاهر هذه الروعة... البصيرة النافذة التي تتمتع بها الجهات الهندسية المعنية بتنظيم العمران والشوارع في بلدية حلب المعطاء.
فالمعلوم أن معظم شوارع ودروب وسط المدينة التي تسمّى (الداون تاون) في البلدان الأخرى صمِّمت منذ الأربعينيات لاستيعاب عشرات السيارات...
أما وقد تغيّرت الظروف والأسباب ومالت عجلة التطور والانفتاح لتيسير الحصول على السيارات.. فقد ظهرت المشكلة للعيان وامتلأت الشوارع الضيقة بالسيارات والغبار... ولم يعد أمام المواطنين الميامين سوى الاعتماد على الطريق التي كان يعتمدها طرزان بحل أزمة المواصلات عن طريق التعلّق بالحبال والانتقال بواسطتها من مكان إلى مكان...
وهكذا تبلورت الحلول الأخرى بسبب تعذّر انتقال المواطنين على الحبال... ليس لشيء وإنما بسبب عدم توفّر الحبال والأشجار
وكان على المعنيين في تنظيم المدينة اقتناص الحلول وليس البحث عنها وكانت أولى الابتكارات إزالة حي باب الفرج من الوجود لإقامة ساحة نيّاحة يلعب بها الخيّال.. ساحة تقول لساحتيْ (البيكاديلي والكونكورد) بعد قيام ساحة باب الفرج بحلب.. سيمضي زمان الساحات الأخرى إلى زوال...
وكنّا ننتظر إحداث الحدائق والشوارع الواسعة نكايةً بساحات الاستعمار... ولكن الشباب الميامين في البلدية من مهندسين وخبراء في تمدّن المدن وصناعة العمران.. انصاعوا لرغبات المستثمرين.. ومنحوهم الساحة كاملة لبناء فندق الشيراتون وقامت الشركة الكافلة لبناء هذا الفندق باعتماد الرصيف السابق لشارع باب الفرج.. ودفشه إلى الوراء ليلتهم الشارع القديم... فتحول الشارع إلى طريق ضيقة لا تسمح سوى بمرور التلوّث والأزمات والأحزان, وأصبحت ساحة باب الفرج التي حلم بها الحلبيون ساحة مرسومة في الأذهان...
ولم تقف الأمور عند هذا الحد... وإنما سُمح لتجار الأراضي والأرواح... بالتخلّص من الأبنية القديمة في بستان كل مرآب وبناء أبنية هائلة على الأرصفة السابقة دون ترك مساحات لمرور أبناء السبيل من المواطنات والمواطنين وسياراتهم التي اشتروها بعد أن ابتسمت في وجوههم القوانين والأقدار...
كان المطلوب المبالغة في النهضة العمرانية لتصير حلب عروس المدن والأمصار.. غير أن شيئاً من هذا لم يحصل ولن يحصل في المستقبل المنظور... إذا ظلت مصالح التجّار أعظم عند مهندسي البلدية وفلاسفة التنظيم وتخطيط العمران من مصالح العابرين من الناس.
فعندما تتحول المدينة إلى مدينة بلا أرصفة وبلا شوارع وساحات... من الذي يحول بينها وبين الاختناق..؟ ومن يضمن ألا يستدعي الناس مرّة أخرى طرزان من الغابات... ليعلمهم وسائل الحركة والقفز والانتقال.