فإذا تراجعت أو انكفأت يعتبرون أنها خانتهم وخذلتهم رغم ما مر به هؤلاء الأتباع الحمقى من تجارب. ومن هذا المنطلق يمكن أن نقرأ زيارة المبعوث الأميركي ديڤيد هيل الذي أتى إلى لبنان وهو يحترق بالنار التي أشعلتها بلاده لأهداف لم تعد خافية على أحد وأهمها ترسيم الحدود (المائية - النفطية) مع الكيان الغاصب، والتضييق على المقاومة وبيئتها سياسياً واقتصادياً ومعيشياً لحشرها في زاوية يعتقد أنها كافية للإذعان لأي طلب أو شرط حول هذه القضية.
ولم تكن زيارة هيل كما بدت في الظاهر بأنه يرتدي قفازات حريرية، بل جاء مكشراً عن أنيابه لكنه اصطدم بواقع أرغمه على التراجع عن مهمته الأساسية بعد أن وجد أن كل ما وصل إلى مراكز الاستخبارات المتموهة بمعاهد الدراسات هي مجرد أكاذيب، إما لأن العملاء يريدون أن يحافظوا على مصدر رزقهم، وإما لأنهم يعتقدون أن تقاريرهم ترضي أسيادهم العربان وتستدرج مواقف وربما إجراءات يتوهمون أن أميركا ستقدم عليها لنصرتهم.
لقد وجد هيل أن عودة رئيس حكومة تصريف الأعمال تحتاج إلى حرب أهلية، وأن ورقة الجيش اللبناني تكاد تتحول إلى مشكلة لا إلى حل كما افترض البعض، وأن المنظمات غير الحكومية كانت تتوهم أن المسرح خلا لها مكان الدولة والقوى الأساسية. كما فقد أيضاً كتلة من رجال الأعمال والمصالح المرتبطين عضوياً بالغرب وسياساته، وسمع تذمرهم من سياسات إدارته والعقوبات التي أصابت أغلبية الناس قبل أن تنال من حزب الله.
لذلك كان عليه أن يتعامل مع الواقع جاء هيل، كما هو، لا كما صوّره مراهقون تناوبوا على منصات في لبنان والخارج، فيما كان عملاء بلاده ينتظرون منه بياناً يشبه بيان مايك بومبيو عندما زار لبنان، ولهذا لم يناقش ملفات الحدود والنفط والغاز والعقوبات وصواريخ المقاومة، وإن كان لمح إلى ذلك مع بعض جلسائه. لقد باتت أميركا مضطرة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها في لبنان على ألا تتوقف عن التدخل والتخريب، ولا تتراجع عن مواقفها المانعة لقيام دولة طبيعية في لبنان، فهي عائدة عندما تنضج الظروف - كما تراهن - لفرض مزيد من العقوبات على المقاومة وبيئتها وتتوسع فيها لتطول حلفاءها. وسيعود الأميركيون، مرة جديدة، إلى إثارة ملفات الحدود والسلاح والنفط والمال، لكنهم يحتاجون إلى لحظة مراجعة بعد أن تغير مصادرها وحتى طاقم سفارتها.
عملياً، لن تكون الأمور صعبة على الفهم كثيراً خلال الأيام القليلة المقبلة، فأميركا تبحث الآن في الخطوة المقبلة ليس مع أتباعها العرب بل مع أوروبا وربما روسيا، كما أن قوى الممانعة التي عادت تحمل اسم تحالف 8 آذار، فهي تبحث في كيفية توفير مناخات لقيام حكومة قوية وذات مصداقية. أما ما يسمى بقوى الحراك فقد انكشفت أمام جماهيرها وظهرت تبعياتها المتعددة لحيتان المال وللقوى السياسية التي نهبت البلاد على مدى 30 عاماً، ولهذا فإن قياداتها المزعومة لن تتجرأ على كشف نفسها حتى لو دعيت للمشاركة في الحكومة الجديدة، وما عدا ذلك يبقى مجرد مفاجآت تفتح البلاد على المجهول الذي لن يؤدي إلا إلى الصدام الطائفي.
وإن غداً لناظره قريب...