|
فسحة للروح وسط الضجيج ثقافة ان تختار موضوعا هو الموسيقا ليكون إسهاما في دعم المعوقين كمدخل و معبر عن الروح الانسانية و معاناتها فهذا خيار موفق و دليل على حساسية مرهفة تجاه الآخر و هذا ما فعله فريق ( رواد الطبيعة للمشي ) المؤسس عام 2002 / الاتحاد الرياضي العام / لجنة المشي الشعبي , تكريما للمعوقين بتنظيمهم أمسية موسيقية في قصر العظم , المكان الأكثر ملاءمة للموسيقا . الأمر الملفت فيما يقدمه هؤلاء الشباب / الفريق هو فكرة المبادرة باتجاه فعل, يتجاوز السائد و المألوف , كنوع من حراك اجتماعي شبابي يؤسس لفكرة جديدة في المجتمع السوري كانوا قد بدؤوها في رحلات المسير/ المشي الجماعي في الطبيعة . ( اخترت الموسيقا لأنها غذاء للروح في زمن تسوده البشاعة و الزعيق و الضجيج الذي يسمّى موسيقى , و اخترنا ان نوجه الأمسية للمعاقين باعتبارهم فئة مظلومة و منسية في مجتمعنا ) يقول هذا محمد مصري صاحب الفكرة و عضو لجنة فريق المشي و الذي شدد على فكرة أن هذا العمل هو( عمل جماعي نريده ليس للشهرة و ليس للكسب المادي إنما كجزء من نشاط اجتماعي أهلي يضاف إلى نشاطنا الرياضي باتجاه تعميق روح الجماعية و التعايش مع الطبيعة و التواصل مع كافة البيئات الريفية لمعرفة عاداتها و تقاليدها و لهذا كانت بطاقات الدخول بأسعار رمزية و طوعية الدفع لمن يرغب في دعم خطوة كهذه ) . الأمسية من تلك الفكرة و من تآلف و توافق نفسي بين المنظمين و العازفين قدمت فرقة ( مايا : باسل خليل , غيث جمال , رغد عنزي , زينة شهلا , يمان حورانية , و شبل الشيخ سعيد ) مقطوعاتها الموسيقية ( تأليف باسل خليل أستاذ الغيتار في المركز الثقافي الروسي ) معنونةً بعضها ب ( قفص الحرية ) و ( قلق ) لتشدنا من إحساسنا بإنسانيتنا و بفكرة عميقة قديمة لا تزال تنشدها الإنسانية هي ( الحرية بكل معانيها و تجلياتها) إذ ليس بالضرورة أن تحيلنا كلمة حرية إلى الثورة و الدفاع و السلاح إنما يقول باسل خليل:(أردت من خلال التناقض بين ( قفص و حرية ) أن أشير إلى ذاك التوق نحو الخلاص و الخروج عن المألوف و عن القيود و لكن في الوقت نفسه أن أعبر عن ذاك الخوف من المجهول فيما بعد الانفصال و الدخول في رعب العزلة ) ربما لذلك جاءت مقطوعته ( قلق ) و كأنها (أسراب طيور ) في مقابل ( عصفور مسجون ) لتوحي بالتجاور بين الموت و للحياة رغم انها بدت أكثر تأمليّة منها توترا و اهتزازات نفس قلقة أو مترقبة كما هو العنوان ! و لأن الفكرة المؤالفة بين جميع المقطوعات هي السموّ عن مبتذل ما يؤلّف حالياً فقد غنّت ( رغد العنزي / عازفة الفلوت ) أغنية ( ع الأسمر اللون ) و هي رغم كونها أغنيةً من الفولكلور السوري قدمتها الفرقة بالدمج بين موسيقا تانغو / اسباني بآلاتهم الغربية (غيتار و فلوت و غيتار باص ) إلا انها أثارت ذائقة الجمهور و إعجابه و تلمست طريقها إليهم بسهولة و بتأثير أعمق عبر نغمات الفلوت التي أعطتها طابعاً شرقيا قديما و كأنها نغمات ناي عتيق ! إلا ان أناقة العزف و اختيار المقطوعات الأولى كبداية للأمسية إذ قدمت فرقة مايا مقطوعة ( عودة إلى الستينات ) و ( ضوء البحر / تأليف باسل خليل ) لم تسعف المؤلف في أدائه لأغنية ( يا مراية / من التراث المغربي ) و التي احتاجت لارتفاعات أكثر قوة و لمساحة صوتية لم يمتلكها كموسيقي و لكنه أدّاها بشكل معقول . و إذا كان التأليف الموسيقي في إحدى جوانبه جرأة فإن التوزيع الموسيقي مخاطرة عندما تقدم على وضع كلمة ( توزيع ) على أداء موسيقي أو على إعادة عزف المقطوعة بآلات مختلفة فقط , فرغم أن باسل خليل يقول ( لم أرد أن أحور في بنية أغنية طريق النحل للرحابنة إنما أردت تقديمها بطريقة العزف على الغيتار والأحاسيس الناجمة عنه ) إلا أنه سمّى أداءه للمقطوعة توزيعاً و في هذه التسمية مخاطرة ! الملفت في الأمسية هو كثافة الحضور في قصر العظم الذي امتلأ بجمهور تنوع بفئاته العمرية مع مؤشر جيد هو حضور نادي الأمل الرياضي للمعوقين الذين ناشدوا المجتمع وجمعياته الخيرية و الحكومية لتبني مشاريع دعم لهم . و رغم الخلل البسيط الذي حصل بين قسمي الأمسية إذ ان الكثير من الحضور تشتت إما وراء فرقة مايا لشكرها أو خرج معتقداً نهاية الأمسية , إلا أن من بقي ظل يشغر مساحة واسعة من القصر و تابع القسم الثاني من الحفلة بزق و رق لا يقل الارتجال أبداً عن التلحين أو لنقل إنه نغمٌ على نغم , قول على قول يرتفع بالنص الأصلي نغما او كتابة او قولاً إلى مراتب أجمل إن كان أصيلاً و إبداعاً خلاقا كما هي حال ارتجالات العازف ( بحري التركماني ) على البزق , الروحانية و المبدعة التي أثرت في الجمهور فتفاعل معها بحس عال و ذوق رفيع . إنها جرأة ان ترتجل على لحن في الذاكرة السمعية و في وجدان الناس و لكنها ربما الجرأة النابعة من المعاناة يقول بحري : ( الفقر أثر في حياتي منذ الطفولة, الفقر الذي لم أستطع ان أهزمه إلا بميل جارف نحو ما هو أسمى من الواقع و قسوته ... فبدأت العزف منذ عمر عشر سنوات بطاقةٍ لم تهدأ و هوس جعلني أترك المدرسة و أضطر إلى هجرها لأعزف على البزق ) بحري التركماني مهووس بآلته إذ أنه عادة ما يرسم العشاق أو المولعين عشقاً اسم حبيبتهم او الحرف الأول من اسمها على زنودهم إلا ان بحري رسم آلة بزق بطريقة النقش العربي ( الوخز بالإبر مع الرماد و الدم ) بحيث لن يمحى أبداً و لن يمحى معه ألمه و ضياع حقه في ان يكون مسجلا في نقابة الفنانين لعدم حصوله على تعليم يؤهله لذلك. يقول بحري :( الموسيقي عندنا مهدورٌ حقه و مغمور في وحل واقع لا يحترم المبدعين إلا لاعتبارات جرت العادة على تبنيها دون مراعاة أهمية الإبداع الحقيقي الكامن في الشخص ) و إذا كانت حال بحري مؤلمة حتى لسامعها فإن حال ( رامي الجندي ) مصاحبه على الرق و طالب الأدب الانكليزي الكفيف البصر و لكن المنير البصيرة و الحساسية الموسيقية , لا تقل أسى ً . فقد تآلفا بهمّ ٍ واحدٍ هو تقديم روحيهما موسيقياً للخروج على واقع موسيقي لم يعد يسمعنا إلا ( المحدود و السخيف من الأغاني التي غمرت الموسيقا الشرقية بموجة من التكرار القبيح ) و رامي الجندي هو الآخر ُرفض في كلية التربية الموسيقية و في نقابة الفنانين رغم أنه كان قائداً للفرقة الموسيقية التي سجلت موسيقا قصيدة (سلمية ) للشاعر محمد الماغوط . و ما يحز في نفسه هو أن (الدولة لم تضع مناهج خاصة بذوي الإعاقات الجسدية و لكن الذين يمتلكون في أرواحهم حياة أخرى يمكنها ان تثمر في المجتمع ) ماركة تجارية في عيونهم جميعاً منظمو الأمسية ( فريق المشي / رواد الطبيعة ) والعازفون و المعوقون تلمح حزنا دفينا ما وراء فرح الحفلة, فضحته آلاتهم الموسيقية و كلماتهم . ( هل تتخيل ... كدنا ان نتحول إلى ملصق إعلان!!) يقول لي محمد مصري أسأله كيف ? يقول :( لقد قدمت لنا وزارة الثقافة مشكورة الرعاية و لكن بمعنى التسهيلات / الموافقة على إقامة الأمسية و المكان / قصر العظم و لكننا ورغم أن الكثير من الشركات التجارية عرضت علينا رعاية العمل و تغطية نفقاته إلا اننا رفضنا كي لا نتحول إلى ملصق إعلاني يعرض ماركتهم التجارية , في مقابل إصرارنا على عملنا الاجتماعي و مطالبتنا الجهات الحكومية المعنية و ليس فقط وزارة الثقافة أن تكترث بشكل حقيقي معنوي و مادي باتجاه هكذا مشاريع ) معاناة , فقر و إعاقات لم تقتصر على كونها جسدية او خَلْقية إنما معوقات روتينية و قانونية في مقابل إصرار على العمل الجماعي بروح الفريق و بحساسية الاهتمام بالآخر ... ألا يجعلنا ذلك كمشاهدين و كمؤسسات دولة مدعوين إلى بذل جهود مستقبلية لضمان استمرار هذه المبادرات قبل أن تختنق في مهدها إذ أنها تتجاوز مسألة ( الجمال ) نحو أهميتها و ضرورتها في بنية الثقافة السورية الحالية ?!
|