نعم يذهبون في اعماق السماء في تقنياتهم ليبدوا أكثر قرباً ولكن هل يصح لنا ان نقول: اننا اليوم وفي عالم الإعلام نشهد من يزداد قرباً والتصاقاً ليكون الأكثر قدرة على تزييف الحقائق والاكثر قدرة على التضليل..?
إعلام مسموع ومقروء ومرئي يحصي عليك انفاسك يكاد ينقل دقات قلبك, يزورها, يعيد تشكيلها, يزيد من سرعتها, قد تبدو لك الصحراء امام عدساته جناناً وارفة, وتبدو الجنان الوارفة سراباً مخادعاً.. الإعلام وسيلة الفتك الأولى في العالم,فتك العقول ومسخ الآراء, وما أكثر الأدوات في هذا المجال لكن الإعلام أكثرها حدة وقدرة على فعل ما يراد فعله...
ولا نأتي بجديد اذا قلنا : ان حبراً كثيراً أريق في الحديث عن الإعلام السوري وتناثر كلام في الهواء,وأدلى الكثيرون بما لديهم, حتى تحول الحديث عن الإعلام السوري الى عمل من لا عمل له, ومع ذلك فالأمر يبدو الآن على الأقل أنه طبيعي, ولكن غير الطبيعي ان تجد الكثيرين يتحدثون عن هذا الإعلام دون ان يعملوا في احداث اي تغيير فيه من خلال عملهم, اقصد اولئك الذين احتلوا صفحات هنا وهناك وفاضوا على الدنيا بنظرياتهم, تبخر حبر النظريات وتبخروا هم...
اليوم يعود الحديث عن الإعلام وقضاياه من جديد, ويجب ألا يتوقف الحديث عن الإعلام قولا وفعلاً, يتجدد الحديث عن الإعلام السوري, وقد قدّم الاستاذ الدكتور مهدي دخل الله(محاضرة متميزة في المركز الثقافي العربي في جوبر تحت عنوان : (قضايا الإعلام المعاصر) وركز فيها على مجموعة قضايا اساسية وهامة, بدءاً من الحديث عن الإعلام كأخطر اسلحة العصر واكثرها قدرة على التأثير, وتوقف عند مصطلح اطلقه ( عربنة) الإعلام وتحدث فيه عن دور الفضائيات العربية التي تجاوزت حدود بلدانها لتكون للبلدان العربية كافة في بثها, ولهذا الامر مزاياه كما أشار السيد الوزير, وان كانت هذه المزايا في رأينا- تحولت وليعذرنا السيد الوزير الى وبال علينا كمتلقين ومشاهدين, فما أكثر قدرتنا على الفتك ببعضنا بعضاً وما أروع تلفيقات هذه المحطات لو كانت قادرة على مخاطبة الآخر في الجانب الآخر, وما اسخاها واكرمها في رش السموم وزرع الفتن وما اغزر دموع اعلامييها!..
على كل حال لنعد الى الحديث عن الإعلام السوري الذي تحدث عنه السيد الوزير ونتوقف عند الاشارات الهامة المتعلقة ببعض قضايا الإعلام السوري وقد أفاض السيد الوزير في الحديث عنها, اذ اشار الى العمل الجاري حول هيكلة الإعلام الرسمي, والهيكلية الادارية والقانونية وكذلك ا لنظام الاعلامي وتقنيات الإعلام في سورية وصيغ التخاطب الاعلامي, ومن ثم الحديث عن الخطاب الاعلامي, واشار الى انها قضايا تطرح للنقاش, وانطلاقاً من طرحها للنقاش, سوف اتوقف عند فكرة هامة وجديرة بالمتابعة هي فكرة الإعلام التفاعلي وقد استفاض السيد الوزير في الحديث عنها شارحاً وموضحاً...
كيف نصل الى الإعلام التفاعلي..?
أولى البدهيات التي تطرح نفسه في هذا المجال هي ان التفاعل يجب ان يكون بين طرفين يقتنع كل منهما بالآخر, أو على الاقل يحدث كل منهما في الآخر تغييراً ولا نأتي بجديد اذا قلنا ان دور الوسيلة الاعلامية هو الأقوى بما يحمله من رسالة اعلامية, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف نصل الى هذا الإعلام التفاعلي ونحن على قاعدة هشة تبدأ من عبارة (عبارة كلام جرايد) اي بمعنى آخر من الذي قادنا الى جعل الرسالة الاعلامية كلاماً بكلام, هنا نعود الى الحديث عن التفاعلية التي نريدها جميعاً لتكون عنواناً حقيقياً لاشعاراً وهمياً, فالتفاعلية تقتضي أول ما تقتضيه ان نؤمن بدور الاعلام, دور رقابي وتوجيهي , ان نؤمن ان من واجب الإعلام ان يشير الى مواقع الخلل وان يكون صوت الناس, وهنا نسأل: هل يؤمن الكثيرون بهذا الدور? واذا آمنوا به هل يؤيدونه..? كيف يحاسب الإعلام السوري, ويجلد من قبل الذي يعرف ولا يعرف, ولا يقبل اي احد ان يشير الإعلام السوري الى اي خلل يمارسه..? لماذا تحول الجميع منظرين اعلاميين ولا يريدون للاعلام ان يقترب منهم..? هل يشاركون في جلد الإعلام حتى يظهروا بمظهر البراءة.. او من اجل ان يبقى بعيداً وليكون موضع اتهام دائم من قبلهم, ومن كان في هذا الموضع لا يحق له ان .. اذا تابعتم وسائل اعلامنا, المقروءة والمسموعة والمرئية وما تقدمه وتعالجه من قضايا, هل رأيتم مسؤولا ما يعترف في ردّه انه مقصّر, أوان لديه خللاً .. الإعلام التفاعلي لن يبنى بين وسائل اعلامية يحاسبها الجميع ويذبحونها ذبحاً حلالاً وبسيوف مثلومة احياناً, دون ان تكون هي قادرة حتى على الدفاع عن مواقفها... لماذا يشترك الجميع في مشهد جلد الإعلام السوري, ويحق لهم ان يفعلوا ذلك حسب تبريراتهم, ولا يحق للاعلام ان يحاسبهم?.. في عددها ما قبل الأخير نشرت مجلة الثقافة العالمية (ع 131) نشرت مقالاً مترجماً تحت عنوان: (المحاسبة ووسائل الاعلام: هل اصبحت قوة مستبدة? المقال بقلم: بن بيملوت, وفيه يرى ان وسائل الإعلام تحاسب, وتحاسب: ( وهكذا عندما نتحدث عن المحاسبة ووسائل الإعلام قد نكون نتحدث عن مجموعة متنوعة من الأشياء, وكل منا يخشى الصحافة ويحتفي بها في آن معاً, إلا ان كلاً منا يحمل قدراً كبيراً من التشوش حول ما الذي يخشاه ويربكه)..
اذا كانت القدرة على المحاسبة تقتضي التفاعل فاننا نراه لدينا من جهة واحدة هي المتلقي الذي يريد كل شيء من وسائل الإعلام وبالوقت نفسه لا يريد شيئاً, يريد ان يحاسبها حتى لا تحاسبه, هجوم استباقي يجعل الإعلام دائماً في قفص الاتهام وعليه ان يلهث وراء صك براءة, وفي المقال نفسه ثمة اشارة هامة الى نظام المحاسبة في ال (BBC) فيقول: (أمّا بالنسبة لمؤسسة BBC فإن نظام المحاسبة فيها أمام مجلس الحكام الداخلي وليس أمام مراقب من الخارج-قد خدم المصلحة العامة على المدى السبعة والسبعين عاماً الماضية, وقدم للجمهور التوجيه والتسلية والذوق الجيد بشكل متميز, ومن ناحية أخرى لها أهميتها الكبيرة كانت (BBC) ومازالت تمثل قدرة في مجال آخر للشركات والقنوات التي لا تبغي الجودة بالضرورة.
لا نطلب ان يكون الحديث عن الإعلام السوري وقضاياها حديثاً داخلياً او في برج عاجي, ولكن على الأقل ان يكون الحديث وان كان ذبحاً ان يكون قادراً على تقديم حقائق ووقائع يبني بعد ان يهدم مواطن الخلل ويثري القدرة على العمل ويضع استراتيجيات, الحديث عن الإعلام السوري ليس تفاعلياً, والإعلام السوري لن يكون في المستقبل القريب تفاعلياً لأن المشكلة هي مشكلة تربوية واجتماعية وثقافية, لم نبن المجتمع الذي يقبل الرأي الآخر, او يتقبل النقد.
تربية اعلامية
اننا ندعو السادة المسؤولين في وزارتي التربية والإعلام الى التفكير الجدي بادخال مادة التربية الاعلامية, الى مدارسنا, على ان تكون مادة قادرة على فعل شيء وعلى ان يكون الهدف منها احداث تغيير في المفاهيم التي تعيق الحوار وتقبل ا لاخر والتفاعل معه, لا ان تكون كمعظم مناهجنا سرداً وحشواً, ما لم ننطلق من مستويين(تحتي) و(فوقي) في الحديث عن الإعلام التفاعلي, اقصد الحوار الشامل والجدي مع من يتولون مقاليد الامور, لأن يكونوا عوناً للاعلام يقومونه ويقيمهم, وبالوقت نفسه نبدأ بتربية اعلامية ثقافية شاملة, ما لم نفعل ذلك سيبقى التفاعل قائما ولكن بشكل آخر, اعلام يتهم, ومزيد من المنظرين الذين.....
ثلاث وصايا
بالتأكيد لست مطلق هذه الوصايا, بل هي ايضاً من المقال السابق الذكر وقد جاءت على لسان باتريشيا هود جسون من لجنة التلفزيون المستقلة في بريطانيا اذ قالت: (هنا لدينا ثلاث وصايا وليس عشر - ثقف واخبر وسل- كانت عبر السنوات بمثابة دليل مميز لمجالس الادارة المتعاقبة, ينبغي ان يكون الشعار: ( الاهداف وليس القوانين) وعلينا تشجيع الجيد ضمن مجموعة قوانين الحرية).
ليس بعيداً..
اظن انه ليس المطلوب منا ان نذهب بعيداً حتى نصبح اكثر قرباًً, بل ربما المطلوب ان نكون الأكثر قدرة على التفاعل والاعتراف بالاخروان نخرج من قوقعة الاحكام المسبقة, فلا الدراسات الاعلامية الاكاديمية لدينا اجدت نفعاً, ولا الحبرالذي أريق بنى صروحاً, بل ربما وحده العمل في العمل والعمل المسؤول هو الذي يبني.
شكراً سيادة الوزير لقد كنت في موضع الطبيب الذي شخص المرض ووصف العلاج, وتوقفت عند المتميز في هذا الاعلام, ولعلّ الغد الذي نؤمن به جميعاً يحتاج الى العمل الحقيقي والى الفرز بين من يبني من خلال النقد الحقيقي وبين من يهدم ليتفاعل من طرف واحد.