وهي أيضاً ليست تصورات خالية من المؤثرات العاطفية ففيها تتركز شحنة قوية من الانفعالات.لذا فهي تعبىء طاقات تؤثر وتحفز فلا الذين يعتنقون الأيديولوجيا ولا الذين يرفضونها أو يحاربونها يستطيعون أن يتخذوا موقف لامبالاة أو عدم اكتراث..
الايديولوجيا تعطي حججاً للحياة وتعطي أيضاً حججاً للمخاطرة بالحياة.
وفي الوقت نفسه تعطي حججاً للاضطهاد والقتل خاصة حين تهددها ايديولوجيات أخرى مضادة والناس يقاتلون عن مصالحهم بعنف يتزايد شدة بقدر ماتكون هذه المصالح مبررة فكرياً.وكل الايديولوجيات دون استثناء حمراء لامن دم الذين خاطروا وضحوا بحياتهم من أجلها وحسب ,بل أيضاً من الدم الأغزر للضحايا الذين قتلوا قرباناً لانتصارها.
ولكل ايديولوجيا معتنقوها ومتعصبوها -ما يبين أن الايديولوجيا بمعنى الكلمة الحصري,ظاهرة تربط بين الناس لجعلهم يشاركون في ذات المعتقدات والطقوس والشعائر المتعلقة بماهولديهم مقدس. ومع ذلك ,فإن الأديان الايديولوجية تتميز عن الأديان الاسطورية,فهذه أديان التعالي,منها تتجاوز الكلمة المقدسة الخطاب المنطقي والإيمان فيها يتعدى حدود المعرفة والقدسي فيها كسر فيما وراء العقل.أما الايديولوجيات فهي ديانات المحايثة ,إنها تعقلن القدسي وتقدس العقل.إنها حسب تعبير كان(ديانات في نطاق العقل) أو بصيغة أدق في (قوالب العقل) ذلك أن محتواها ليس أدنى للقبول العقلي من مضمون الأديان الأسطورية.
في الندوة الحوارية التي دعت إليها مجلة المعارج وبالتعاون مع بطريركية الروم الكاثوليك-رعية يوحنا الدمشقي ,وبمشاركة عدد من المفكرين والباحثين والعلماء من رجال الدين الاسلامي والمسيحي,وعدد من رجال السلك الدبلوماسي المعتمد في دمشق,حاول كل من الباحث اللبناني الدكتور محمود حيدر رئيس تحرير مجلة مدارات غربية. وسماحة الشيخ حسين شحادة البحث عن(جغرافية تفكير) لفهم طبيعة ا لعلاقة بين الدين والايديولوجيا
تحدث الدكتور محمود حيدر عن ثنائية الايديولوجيا والدين, وعن نقاط الالتقاء والافتراق.
فرأى أنه منذ اللحظة الأولى للالتقاء,تمحى الثنائية ,فلا الدين يبقى مجرد نص متعال على الزمن أو خارجه, ولا الايديولوجيا تظل مجرد تصورات في الذهن أوكلمات لاطائل منها.وفي هذه الحال يستوي الكلام عن الدين والايديولوجيا تحت عناوين ادماجية من قبيل(ايديولوجيادينية) (أو تدين ايديولوجي)أو عن طريق السؤال المفتوح: كيف يتحول الدين إلى ايديولوجيا?!..
أي أن الدين بوصفه نظام علاقة واتصال بين الإنسان والإنسان ,والإنسان والله.والايديولوجيا بوصفها فهماً واعادة فهم لذلك النظام,لكن الايديولوجيا بما هي كذلك لاتنفصل البتة عن الدين ,وهي تقيم معه في مسكن واحد. ذلك أنها ستأخذ منه ويأخذ منها ضمن حقل فسيح من التفاعل والاختبار والمعاينة.
وأضاف: إن الايديولوجيا تأخذ معناها من نسبتها إلى قضاياها وحقول تجاربها .وهي الحقول والقضايا التي تتعدد بتعدد حراك الناس في أمكنتهم المعينة وفي الزمن, وعلى مبدأ الثابت والمتحول يكون الدين هو الثابت والايديولوجيا هي المتحول.وحين يتحقق اللقاء. يمتزج الثابت والمتحول فيغدوان مولوداً جديداً سارياً في اللحظات الحرجة كما في الزمن المفتوح.في الأمكنة الفسيحة كما في الزوايا الحادة.وعلى كل حال ,فإن الفاعل البشري هو الذي يخلع على الدين بعده الايديولوجي فيما هو يمارس تدينه الاجتماعي والسياسي والثقافي و الحضاري مهمة الفاعل ا لايديولوجي سواء أكان فرداً أو جماعة,تتحدد بإكساب كل مايعتقدبه شرعية تؤكد له هويته من جهة وتمنحه الأدوات المادية واللامادية للدفاع عن تلك الهوية من جهة أخرى.
وعلى هذه الصيرورة عن العلاقة التحويلية يتحد الدين بالايديولوجيا بواسطة الفاعل الايديولوجي.
ثم تحدث الشيخ حسين شحادة منطلقاً من زاوية وطنية -اجتماعية.منبهاً إلى أن أخطر مايواجه العقل العربي هو استلاب المستقبل لهذا العقل بحراب العولمة العسكرية التي تصطاد العالم بشباك الايديولوجيا اللامرئية مستترة وراء ايديولوجيا التفوق العلمي وما يرتبط به من تقنيات وسياسات لتظهر الأمم الشاردة عنها وكأنها العدو المعادي لالتقدم العلم وتقنياته فحسب ,بل لحقوق الإنسان نفسه في الديمقراطية والاصلاح...
وأضاف الشيخ شحادة.صحيح أن الدين من خلال تمركزه في منطقة القلب والروح يبدو أشمل وأوسع وأرحب من الايديولوجيا المنغلقة على زاوية حادة أوجانب أحادي إلا أن الدين هو رؤية كونية يجب أن يتغذى ويتعدد بتعدد منابعه وإضاءاته إذا كانت الايديولوجيا بما هي منظومة لتفسير العالم الاجتماعي منطوية على نظام من القيم المقبولة لتثوير حركة الإصلاح والتجديد في المجتمع,فإن الايديولوجيا الإسلامية الاصلاحية لم تقبض على الحلقة المفقودة من مفتاح النهضة المرتجاة لأنها لم تنعتق بعد من نزعة القرارات الميكروسكوبية للنصوص متسائلاً :ماالفرق في ملاعب حروبنا الطائفية بين الايديولوجيا التي تمارس إسقاط الحلم على الواقع واعتباره بديلاً له وبين دين يمارس الإسقاط الطوباوي,اسقاط الغيب والتاريخ على الواقع فيسفك دم الوحدة الوطنية.
رأى الشيخ شحادة أنه: إذا كانت القيم هي المعنى الذي يدار عليه مفهوم الدين والايديولوجيا فإن هذا المعنى سيظل مجرد سراب خارج المجال الحيوي لوحدة الإنسان والوطن مايعني أن امتهان كرامة الإنسان هوامتهان بمعنى الدين ,فكيف للدين أن يقارع نظريات عبث الوجود وفوضاه ثم يقارب هذا العبث بتدمير الوحدة الوطنية وجوهرها العميق بشله ارادة الإنسان ومصادرة حقه في الحرية والمواطنة والانتماء,كذلك أفهم من كلام السيد المسيح(ع) يجب أن تولدوا ثانية,اضاءة رائعة لمعنى تجديد الوعي بالدين والوطن والإنسان وليس من محض لهذه الولادة الثانية إلا الدولة الحديثة التي تكفل حرية التدين للجميع وحرية الرأي للجميع بوحدة وطنية هي الضامن الوحيد لفض اشتباكات التصادم بين الدين والايديولوجيا بعيداً عن لغة استبداد الايمان الذي يريد تفصيل الوجود والكون والوطن على قياس شبر من تراب أو على قياس قفص من طائفية..
وختم الشيخ حسين كلامه بالقول: إذا كان منطق الاحتلال الجديد لعالمنا العربي والإسلامي يفرض علينا بقوة السلاح أن نستجيب لشروط التكيف مع نموذجه الحضاري فإن الرد المقاوم هذه المرة يجب أن ينطلق من حسم أشكال العلاقة بين ماضينا وحاضرنا كمدخل لتحصين هويتنا المهددة إما بالاستجابة لمنطق الاحتلال وإما بالقطيعة مع العصر بمنطق أدلجة الدين الذي يسد علينا منافذ الإبداع لإنتاج وعي مضيء بالذات الدينية الخلاقة في مستوى تطلعات هذا الشرق المصاب بأعزما عنده من كنوز الدين والوحدة والسلام.