وكان ذلك هو بداية العدوان الهمجي المسمى «الرصاص المصبوب» وبداية الحرب الإجرامية ضد شعب أعزل، والذي تكبد خلال ثلاثة أسابيع أكثر من 1400 قتيل، من بينهم أكثر من 410 أطفال، و3500 جريح، ومشوه حرب، وعشرات الآلاف باتوا بلا مأوى، وسط سكان مدنيين يرزحون تحت وطأة أشهر الحصار الطويلة التي فرضتها عليهم «اسرائيل» وحرمتهم من الغذاء وكل المواد الضرورية (كالدواء، الغاز، المازوت)، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.
اليوم، وبعد عام من الحصار وسيل النار الذي أتى على كل شيء.
يحاول سكان غزة المنهكون، والمستنزفون الصمود وسط الخراب والحرمان، المشافي تعاني من نقص الأدوية وقطع الغيار، والبنى التحتية لجر مياه الشرب والصرف الصحي في حالة يرثى لها، والوضع الصحي في أسوأ أحواله، كما أن اسرائيل تحول دون دخول المواد اللازمة لإعادة إعمار القطاع.
واللامبالاة من جانب الدول الغربية التي تحمي «اسرائيل المارقة» بدلاً من الضغط والتأثير عليها، تشكل فضيحة كبرى، إذ إن أكثر من مليون ونصف مليون شخص جلهم من الأطفال في حالة اختناق وحصار دائم وبلا حدود وعلى مرأى ومسمع العالم، وقد حولته «اسرائيل» إلى سجن رهيب، وحكامنا في أوروبا وأميركا الذين يتشدقون بالدفاع عن حقوق الانسان هم في الواقع جبناء وعاجزون ويقفون مكتوفي الأيدي حيال مايجري في غزة، والأميركيون يشاركون في إحياء ذكرى المجازر التي حدثت منذ أكثر من 60 عاماً، ولايريدون أن يبذلوا أدنى جهد لإجبار اسرائيل على وضع حد لأكبر وأفظع جريمة بحق الإنسانية في عصرنا الحالي: إنه غيتو غزة الغيتو الذي يجسد عذاب شعب بأكمله يعاني من الإهمال واللامبالاة، عذاب يجري أمام ناظرينا في حين نملك في الغرب كل أدوات الفعل والتأثير، وكل إمكانات إيصال أصواتنا إلى العالم كله، إنها جريمة لاتغتفر، وبالنسبة لملايين الناس الذين أعلنوا تضامنهم مع شعب غزة المنكوب، يمثل فضيحة مضاعفة.
وعلى الرغم من النداءات الكثيرة التي أطلقتها شخصيات عالمية بارزة ومرموقة، وصيحات الإنذار من الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وعلى الرغم من تقرير غولدستون الذي فضح جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي، مازالت حكوماتنا الغربية ترفض ممارسة أي ضغط حقيقي على «اسرائيل» لوضع نهاية لهذا الوضع المأساوي.
عشرات الآلاف المدنيين الناقمين على هذه المظلمة بدؤوا بالتحرك والعمل في محاولة لكسر الحصار الخانق المفروض على سكان قطاع غزة، خرجوا من البر والبحر، وعملوا لفرض حالة من العزلة على «اسرائيل» كما حصل بالأمس لنظام الفصل العنصري، «الأبارتيد» في جنوب إفريقيا، وفضحوا كل الحكومات المتواطئة مباشرة أو بشكل غير مباشر، والتي لاتعبأ برأي شعوبها، فالحكومات الغربية التي تتعاون مع اسرائيل ويتركونها تفلت من العقاب هم شركاء في الآلام التي يعاني منها مئات الآلاف من الأطفال المعذبين، وهم شركاء في العقوبات الجماعية المفروضة على مليون ونصف المليون إنسان الرازحين تحت وطأة الحصار.
بعض الحكومات تساهم فيه بصورة مباشرة، كحكومتي الولايات المتحدة وفرنسا اللتين تبذلان قصارى جهدهما لإحكام الحصار على قطاع غزة بالجدار الفولاذي المخصص لإغلاق الأنفاق التي تعتبر بمثابة شريان الحياة الذي يمد قطاع غزة بالغذاء، ولتجويعهم أملاً في أن يرتد ذلك سخطاً شعبياً على حركة «حماس» وبعبارة أخرى، إنهم يجتمعون بوقاحة لأسباب سياسية، لفرض عقاب جماعي ينتهك حرمة القانون الدولي.
وحده ضغط الرأي العام يمكنه أن يرغم «اسرائيل» على فك حصارها عن قطاع غزة، وفتح بوابات الجحيم، وإرغام الحكومات الغربية، وحلفائها الآخرين للإقلاع عن جريمة التواطؤ والمشاركة والتحرك لمعاقبة «اسرائيل».
والتظاهرات التي نظمت من 27 كانون الأول الماضي، وحتى منتصف كانون الثاني، لمواكبة الحملة الدولية «طريق الحرية» توضح الطريق التي يجب علينا أن نسلكها.
فالالتزام الشجاع والرائع لآلاف المواطنين في أكثر من 43 بلداً، والذي تصاعد اليوم ليتحول إلى مد عارم لايمكن مقاومته، هل سيكون كافياً لإرغام حكوماتنا الغربية على العمل والتحرك في نهاية المطاف؟