ان يكون للصورة العبثية التي قدمها عن تجربة احد اهم رواد المسرح العربي المريرة واقعا ايجابيا واصداء حافزة تبعث على دفع حركة المسرح والارتقاء به ..
اعتمد دفاع المخرج عن المسرح على اسلوب عرض بصري صريح وواضح بعيد عن عالم الغموض وفك الرموز ولم تكن حجته في استقطاب الجمهور ودعوته له بالتفاعل مع عملية دفع المسرح سوى جمالية هذا الفن العريق والاصيل بحد ذاتها ورسالته السامية.
أ- جمالية العرض
1- الاخراج:
جسد المخرج جمالية المسرح في هذا العمل انطلاقا من خشبة فقيرة بعناصر الديكور وسلط عليها زخما لطيفا من انواع لغات المسرح الفنية والتي ارادها المخرج ان تكون متواضعة : (الوان, اضاءة , ملابس , رقصات تعبيرية, ومسرح داخل مسرح ,وحوار ,وفكاهة الخ..).
وكان لتوظيف المخرج للشاشة الخلفية التي اجتاحت بحجمها فضاءه المسرحي ورافقت غالبية اللوحات اثر ساحر في مسار العرض وجماليته فشكلت حلا اخراجيا في تغيير الزمان والمكان واظهرت بخيال الظل مسرح( الكركوزاتي) وعرضت مقتطفات من افلام ومسرحيات مصورة وتوافقت بتدرج اضاءتها والوانها الزرقاء والخضراء مع مختلف معاني المشاهد التي واكبتها..
وجاءت اللوحات الدرامية خاضعة لنهج المخرج المهتم التفاصيل الجزئية ومزينة بالافكار الاخراجية المبدعة والخفيفة الظل كما جاءت هذه اللوحات مشبعة دون ان تكون مثقلة بالعناصر المتجددة البصرية والفنية والمسرحية والموسيقية المؤثرة والمنتقاة قبل كل شيء وفق مسار شاعرية العرض ودلالاته . لم تتوقف طوال العرض حركة تغيير اللوحات الواحدة تلو الاخرى وامتازت بتماسكها وانسيابيتها ومرونتها, فذكرت بذلك بالتقنية التصويرية السينمائية.
2-الممثلون :
وجاء لعب الممثلين موفقا الى حد كبير فقد ملؤوا المسرح بملابسهم البسيطة المنوعة والملونة والمزركشة وبحركتهم وضجيجهم بجمودهم وصمتهم ,شغلوه بجميع ابعاده : افقيا, عموديا, يمنة , ويسر, مقدمة الخشبة وعمقها كما امتدت حركتهم الى عمق الصالة عندما دخل ابو خليل والاستاذ من باب الصالة الخلفي وكذلك تفاعل الاستاذ مع جمهور الصالة فبدا لبرهة وكأنه يؤنبهم لأنهم غدوا طلابه الذين اخطؤوا في الاجابة?!
وبلعبة اخراجية ذكية انسحب الاستاذ شيئا فشيئا من الحاضر ودخل الى الماضي ثم عاد واستحضر معه ابا خليل القباني ليس فقط الى الزمن الحاضر ولكن الى مسرح القباني في دمشق وحتى الى المسرح القومي في ا للاذقية فاستوجبت هذه الفكرة الاخراجية الابداعية الخفيفة الظل شكر مخرج العمل .كما نوجه هنا تحية للممثلين حسين عباس واحمد قشقارة على ادائهما ولعبهما المتميزين . نشكر ايضا الطفل زياد حسين عباس ( ابو خليل القباني الصغير) لأنه كان سببا بذكائه وفطنته لتعاطفنا مع ذلك الطفل الموهوب فجعلنا اسرى قصة معاناة ذلك المسرحي الكبير كما نوجه الشكر لجميع الاطفال وللممثل القدير عدنان السيد على لوحة التلاميذ وشيخ الكتاب لأنها اضفت بروحها الدينية الخجولة وألوانها البيضاء الزاهية وبراءة الاطفال وشقاوتهم وحوارهم مع الشيخ سحرا خاصا على جمالية العرض .
3- الحوار
اما لغة الحوار فكانت هي ايضا منوعة ومحببة ولم تخل من روح الفكاهة والدعابة فدغدغت اسماعنا اللهجة الشامية العريقة واللهجة العامية المحلية وتردد على مسامعنا شيئاً من الخطاب الديني اما الخطاب التدريسي فقد حظي لخصوصيته بعناية المخرج والممثل الذي لعب دور الاستاذ كما سمعنا لغة ادبية جميلة وشعرا وسردا تاريخيا ومفردات ومصطلحات تقنية مسرحية .. وجاء هذا التنويع في اطار سياسة المخرج التي عمت العرض في الاكثار من فنون العناصر المسرحية من اجل اظهار جمالية المسرح وتعميق الحس المسرحي لدى الجمهور .
وبالنسبة للغة الموسيقية فقد ساد عليها هي ايضا طابع الحزن رغم غنى انواعها وتعبيرها وتأثيرها فجاءت اما معزوفات ناعمة او اوبرالية او شرقية او مغناة فولكلورية وموشحات اندلسية واصيلة اذ نوه العرض بأن بعض الاغنيات التي ما زلنا ندندنها في الوقت الحاضر تعود الى المبدع ابي خليل القباني .
ب-رسالة العرض :
حمل العرض هذه المرة رسالة ثقافية سامية كسمو اهداف المسرح اذ قدم قصة مبدع وممثلين وجمهور احبوا المسرح وارتادوه وعملوا فيه ومن اجله غير انهم اصطدموا بقوى لم تفهمه فحاربته عبر الزمن ولم تزل تحاربه ولكن هذا الفن الجميل ما فتئ صامدا معتمدا على تطور علومه وفنون لغته ومختلف وسائله البصرية والسمعية لطالما بقيت البشرية ودامت معها اهدافها الانسانية.
ولما اقحم المخرج صورة تجربة ابي خليل العبثية الحزينة في رحم لغات المسرح الفنية والابداعية والاخراجية فلأنه كان يتمنى مخاض مسرح متجدد , فزاد هذا التناقض الذي عم الخشبة- بين العبثية والحزن من جهة وبين الحركة الكبيرة والالوان المحيطة بها من جهة اخر- من جمالية العرض وفاعليته وعزز من تأثيره في المتلقي .. وعندما سيعود القباني الى مسارحنا في المرة القادمة فسيرى اشياء ترضيه !!! اما اذا ذهب المسؤولون عن الحركة الثقافية بدعوة المسرح القومي الى بيت القباني هذا الرمز فسوف يرون اشياء لا ترضيهم ولا ترضي محبي الثقافة ..وكانت هذه رسالة العرض الثانية .
كنا نتمنى على المخرج لوانه سمح لذهن الجمهور بأن يكون نشيطا وفاعلا بصورة اكبر اذ لم يكن المشاهد هنا سوى متلق واسع لما يعرضه العمل امامه . هذا العمل الذي نم عن الجهود الكبيرة والمتضافرة التي بذلها جميع العاملين فيه من اجل انجاحه , نشكرهم ونتمنى لهم دوام التوفيق ..