ˆ في العام 2004 صدرت في سورية نحو سبع روايات. برأيك هل هذا العدد فائض عن الحاجة أم أنه أقل من المطلوب, ثم كيف تنظر إلى النتاج الروائي السوري في حالته الراهنة?
ˆ ˆ في الحقيقة أنا لا أعلم شيئاً عن الرقم الذي حققته الرواية السورية في العام المذكور, وبظني أن أي رقم لا يعني شيئاً وأن الذي يعني الثقافة هو أهمية الروايات الصادرة. والأعمال الإبداعية في الأدب لا تعامل كما هو الحال مع الإنتاج الاقتصادي مثلاً , لأنها تمثل طاقة الإبداعات الاجتماعية والتي تعكس حيوية روحه وقدرته على التفجر الفني الذي يمثل المؤشر الصادق على التطور والنمو.
إن رواية واحدة عظيمة تصدر خلال سنوات قد تكفي لتمثيل هذا التفجر الفني, وعدد من روايات قد لا يفعل الأمر نفسه. إلا أن الحكم على الواقع الثقافي عبر الإبداع الروائي أو أي جنس آخر, لن تتوفر له الدقة ما دام هناك قصور واضح في الموسوعات الصادرة وهي تمثل كافة الأجناس الأدبية. ويمكن للحركة النقدية, وليس لفرد مثلي, أن تحكم على عمل روائي جديد لذاته ومن خلال المخزون الروائي السوري, ولا حاجة آنذاك لتقويم ذلك العمل على ضوء الرواية العربية أو العالمية.
وبظني أنه لم تتوفر لنا بعد حركة نقدية متكاملة في الجامعات والمؤسسات الثقافية المختلفة كي تطلق الأحكام أو تثير الهم النقدي في جسد الثقافة الوطنية, إلا أنني كفرد مهموم بالواقع الثقافي أجد أن دم الإبداع ما زال يسري في جسد الحياة الاجتماعية لتظهر من وقت لآخر أغنية جميلة أو قصيدة شعر مؤثرة أو رواية فاتنة أو مسرحية تشد الروح إليها. وفي الأحوال كلها يمكن اعتبار مجتمعنا الثقافي ما زال يسعى بجدية إلى تحقيق طموح قد يؤمن له مكاناً مرموقاً في نادي الإبداع الروائي العربي. وأعتقد أن التجارب المستمرة للأجيال المتعاقبة ستساند هذا الطموح. وبشكل عام وما دام فعل القص والرواية مستمراً في العطاء كشكل أمثل للتعبير عن جوهر الثقافة, فإن الإصدارات الروائية تعزز بدرجات مختلفة موقعنا الثقافي وكذلك الاجتماعي , وإنه لا بد من الإشادة بأي تراكم روائي.
ˆ عرف عنك أنك غزير الإنتاج, في الرواية والقصة و المسرح, علماً بأن البعض يعتقد أن غزارة الإنتاج قد تؤثر على قيمة العمل. ما هي وجهة نظرك بهذه الإشكالية?
ˆ ˆ أقر وأعترف بأن مجموع الصفحات التي كتبتها في خمسين سنة لتضم أعمالي الأدبية, لا تشكل حقيقة رقماً يستحق أن يطلق عليه اسم (الغزارة) وأعتقد أنه لو كنت كاتباً محترفاً لتمنيت أن أكون غزيراً كما يقال, إلا أنني قضيت معظم السنوات وأنا أكتب كهاوٍ لا يجد متنفساً وعزاء له سوى الكتابة مهما كان جنسها. وأظن أن السنوات الخمس الأخيرة قد جعلتني أكتب تحت لواء الالتزام بها بشيء يشبه الاحتراف, إذا أنه لم يبق لي, وبعد استعادة حريتي المقيدة بالوظيفة, من عمل سوى القراءة و الكتابة.
وأعترف بأني لست بحاجة إلى أحكام تطلق على نتاجي لأني أقوم عادة بتلك المحاكمة, وإن هذا الاستمرار الدؤوب هو البرهان على أني لا أؤمن بكمال ما كتبت من قبل, واستسلم دوماً لحكمي على ما سأكتب أنه سيكون الأفضل, وهكذا كنت منذ البداية أكتب كي تتحقق إنسانيتي ويتوفر لي العزاء, ولم أبحث يوماً عن تحقيق مجد أو نصر أو ارتزاق أو ثناء, ولا أنكر أن مديحاً مجانياً لي كان يعادل عندي الهجوم الأحمق. وبعامة كان معظم النقد الموجه لأعمالي لسنوات طويلة يصب على الجانب الفكري أكثر منه على الجانب الفني, وكانت الإيديولوجيا والمواقف الفكرية القاطعة هي الأغلب على ذلك النقد. وأظن أن عدم انتسابي إلى قبيلة فكرية أو عقائدية قد لعب دوراً في ذلك النقد الذي لم يكن في أغلبه نقداً بمعناه الأكاديمي أو الفني. وقد أضرت نزعتي التجريبية بسمعتي في فترات سابقة, إلا أنها حصنتني فلم أدخل في زمرة أدبية أو سياسية, إذ كان البحث عن نفسي وعن الحقيقة المتغيرة هو الأساس في استمرار مسيرة حياتي من ثقافة وغيرها. ألا تعتقد أن المجتمع ما زال يبحث عن نفسه وعن الحقيقة وأنه لم يحقق كامل الهدف بعد?.
ˆ ثمة توصيفات جنسية مبالغ فيها ظهرت على صفحات الرواية السورية الحديثة. كيف ترى قضية الجنس في الرواية, وما هي الحدود التي تعتقدها مناسبة لمثل هذه التوصيفات?
ˆ ˆ ليس هذا باكتشاف جديد, فالرواية العالمية والعربية كانت منذ زمن وما زالت يحفل بعضها بالصور والمواقف الجنسية, إلا أن الرواية العظيمة هي التي تمنح الجنس وضعه الطبيعي الذي يشكل جانباً عضوياً وهاماً من الحياة البشرية.
وهي في استخدامه الفني تحقق ضرورة روائية, إلا أننا يجب أن نفرق هنا بين (السوقية المبتذلة) وبين (التوصيف الفني) لوجود الجنس في العمل الروائي. وأسمح لنفسي أن أذكر بروايتي (دار المتعة) التي يشكل (البغاء) عموداً من أهم أعمدة بنائها الفني وبنيتها الاجتماعية, فقد كانت المركز الذي تدور حوله المدينة والأحداث الكبرى فيها, وكانت دار المتعة هي (سرّة) المدينة. وعموماً لا أتوجه أبداً بالنصح الأخلاقي في حالة كهذه, إنما أدعو دوماً إلى الصدق الفني في استخدام النشاطات البشرية التي يشكل الجنس فيها جانباً داخل أي عمل فني.
ولا بد أننا نذكر الاستهتار في استخدام الجنس بشكل سيء وبخاصة في الأفلام السينمائية والذي أثر دون شك كظاهرة استهلاكية رخيصة في الأعمال الثقافية المختلفة وفي السلوك الاجتماعي أيضاً. لقد وجد الجنس في الحياة البشرية لحفظ النوع, وجاءت الفنون والآداب العظيمة لنستخدمه كوسيلة لتحسين النوع, ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر إلى دور الرواية السورية المعاصرة في الحفاظ على ذلك المفهوم, أي أن يكون الجنس لتحسين النوع, وأن الوصف الحسي المباشر للجنس لا يخدم نبل المقصد من العمل الروائي.
ˆ أعرف أن الكتابة بالنسبة إليك تشكل حالة من المتعة الشخصية . ترى متى تتحول عندك إلى همّ يؤرقك?
الهمّ مولّد الإبداع
ˆ ˆ متى كانت (المتعة) تنفصل عن (الهم). إن متعتي في الكتابة لا توصف وبخاصة عندما أستطيع أن أحول همي إلى كلمات وصور تدخل في نسيج العمل الأدبي, وأن يصبح (الخاص) في الأدب (حالة عامة). والهم الأكبر عندي يكون عندما أعجز عن وضع معادل فني للهم في الكتابة. ومن همومي أيضاً في الأعمال الأدبية تتمثل في اكتشافي أن عملاً ما لي يشابه عملاً آخر أو يقل عنه أهمية, إلا أن الهم الإنساني الذي سينعكس حتماً على ما أكتب لا حدود له, فبؤس الإنسان وعذاباته المستمرة والسوقية الغالبة على الحياة اليومية وتفسخ القيم النبيلة والشعبوية التي تطغى على الشعبية, كلها يشكل جوانب من الهم الذي لا يتوقف فكأن الحياة دون هموم لا تستطيع أن تنتج تلك الأشكال الراقية في الفن والأدب, وإن الهم الإنساني في الواقع هو مولّد الإبداع, لذا فإن المتعة الحقيقية كما ذكرت تكون بالوقوف في وجه تلك الهموم, فالكتابة حلم يصبح هماً إذا ما عجزت عن فهم حزن الإنسان وآلامه وقلقه وآماله وإدخالها في بنية العمل الأدبي.
الكتابة هي البحث عن الكمال, وأخطر أشكال الهم يكون في عجز الكتابة عن تحقيق ذلك الكمال, لذا فأنا مازلت واقعاً في فخ البحث عنه.
ˆ خلال تجربتك الإبداعية الممتدة إلى خمسين سنة مضت, حوربت من جهات متعددة ومتناقضة في توجهاتها. أين أنت الآن من هذا كله, وماذا يعني لك, ما تعرضت له بعد مضي كل تلك السنوات?
ˆ ˆ لا يمكن لتاريخ الإنسانية وحاضرها أن يبتعد عن التناقض والصراع بين الأفراد والجماعات. وتلك السمة الملتصقة بالإنسان هي الحقيقة التي نتقبلها كواقعة لا بد منها, ونعتبرها قائمة بالأمس واليوم وغداً. وبظني أن تقبل الفرد يوم يكون كاتباً لأي هجوم أو عداء سيساهم في بناء شخصيته ويرممها ويجعل من إنتاجه أكثر حذراً في فعل الاقتناع بنفسه, أي أن المواقف سلبية أو ناقدة ستكون لها مكانة عند الكاتب كي يراقب ذاته لأنها تصبح في كثير من الأحايين أشبه بالترمومتر الذي يقيس بها الكاتب موقعه.
ولا أنكر أني في فترات مختلفة, ومازلت, أتعرض لمثل تلك المواقف التي تزيد من تمسكي بدوري الاجتماعي المتطلع إلى فعل ما أو إضافة, ليس في العمل الثقافي فحسب بل في الحياة نفسها, ولم توقفني أو تخلق عداء عندي أية مواقف معادية لي بل زادتني إصراراً على مراجعة دائمة لنفسي وعلى الاستمرار الذي لا أتخيل توقفه إلا بالموت.
ˆ كنت من رواد المقاهي الحلبية بانتظام, تلتقي الأصدقاء والكتّاب, ولكنك انقطعت بشكل مفاجئ عن ارتيادها, فيما تحرص عند زيارتك لدمشق على ارتياد مقهى ( الروضة ) تحديداً. السؤال ما سر انقطاعك عن مقاهي حلب, وما سر حرصك على ارتياد مقهى الروضة بدمشق?.
حربي مع الزمن
ˆ ˆ اكتشفت ذات يوم وفجأة أن العمر قصير وأن حربي الحقيقية هي أصلاً مع الزمن, فأنا لم أعط كما يجب قياساً للزمن الذي عشته, فعلمت أن الوقت قد حان, وبخاصة أني انتهيت من العمل الوظيفي منذ سنوات, كي أعيد النظر في علاقتي مع الزمن, فباتت الساعات أكثر أهمية من سابقتها وبت أخرج ببطء من عالم الهواية الأدبية الذي عشته لعشرات السنين لأدخل في مسيرة التفرغ لاستكمال مشاريعي وأحلامي الثقافية. وبات عندي شعور بأن سنوات الوظيفة كانت مفيدة أيضاً في اكتساب خبرات واسعة من احتكاك بالناس وأسفارا مختلفة.
إلا أن زياراتي لدمشق لم تمنعني من حنين إلى المقهى بعد أن وجدت في (الروضة) فسحة لاكتشاف دمشق الحقيقية التي يحاول تطور الحياة الحديثة أن يلغي جوانب منها. وفي مقهى الروضة أصبحت لي فرصة في لقاءات بالأصدقاء من الكتاب والفنانين الذي بات معظمهم من علامات دمشق, ويسرني دوماً أن ألتقي بهم ليؤكد ذلك المكان على أني مازلت كائناً اجتماعياً.