وكلما انكسر موطئ قدمي أو موضع يدي في صخرة كنت أسقط لأمسك بأخرى جديدة.
لم يكن لدي الوقت للتفكير بأي شيء, فقط كان علي التصرف بسرعة وكأنني وسط لعبة فيديو مخيفة, وفي رأسي تتردد عبارة: (لا يمكن أن أموت, لا يمكن أن أموت)) , هذا مقطع من يوميات (راشيل كوري) كتب عام 1999 قبل أربع سنوات من مقتلها بجرافة إسرائيلية في قطاع غزة عندما كانت تحاول منعها من تهديم منازل فلسطينية.
السنة الماضية طلب مني مسرح البلاط الملكي تحويل كتابات (راشيل كوري) إلى مسرحية مع (آلان ريكمان) الذي يقوم أيضاً بإخراجها.
لقد قرأت الرسائل الالكترونية المؤثرة التي أرسلتها لوطنها من غزة وتصفحت على الانترنت أقوال شهود العيان, ولكنني لم أكن لأتخيل أن كتابات راشيل المبكرة (حتى قبل أن تفكر بالسفر إلى الشرق الأوسط, أي منذ أيام المدرسة وخلال سنوات الجامعة وصولاً إلى عملها بمركز للصحة العقلية داخل مدينتها أولمبيا في واشنطن), يمكن أن تكون مذهلة وتحمل هذا الشيء المرعب من التنبؤ بالمستقبل ولم أكن أملك فكرة عن أي نوع من البشر كانت راشيل كوري: فوضوية, نحيلة الجسم, محبة لدالي, مدخنة بإفراط مع حب لموسيقا (بات بيناتار) وهي أمور اكتشفها فيما بعد.
قتلت (راشيل) وهي في الثالثة والعشرين يوم السادس عشر من آذار عام 2003 بجرافة من نوع (كاتر بيلير د-9) التي صنعت خصيصاً لتدمير المنازل.
موتها كان البداية لسلسلة قتل للغربيين في غزة ربيع 2003 خلال الحرب على العراق, حيث قتل البريطاني (توم هارندول) (22عاماً) في الحادي عشر من نيسان, وبريطاني آخر هو المصور (جيمس ميلير) (34عاماً) في السادس عشر من أيار.
وكانت (راشيل) و(هارندول) ناشطين في حركة التكافل الدولي (آي اس ام) وهي منظمة وجدت لدعم المقاومة الفلسطينية غير العنيفة للاحتلال العسكري الإسرائيلي.
قتلت (راشيل) قبل يومين من بدء الهجوم على بغداد عندما كانت أنظار العالم باتجاه آخر, وأضحت شهيدة بالنسبة للفلسطينيين وضحية انتفاضتهم التي وقفت في وجه الجيش الإسرائيلي القوي, وقد مجد (ادوارد سعيد) فعلها على أنه (بطولي وجليل في نفس الوقت).
ولكن الكثير من الإسرائىليين اعتبروها في أفضل الحالات ساذجة تتدخل في وضع لم تفهمه وبالنسبة لبعض الأميركيين كانت خائنة وحملت شبكة الانترنت عبارات مثل: (يجب أن تحترق في جهنم للأبد), (تخلص جيد من نفاية سيئة), ( أنا ممتن لأنها ماتت).
أولئك المقربون من راشيل يفضلون لو أنها لم تصبح مشهورة كونها فتاة أميركية شقراء قد قتلت, وكما قال صديقها السابق (كولين ريس) في الفيلم الوثائقي (موت مثالية): (الإنسانة التي عرفتها تم اختزالها بنقطة واحدة, فكل ما كانته راشيل, وكل فكرة ذكية امتلكتها, وكل مشروع فني قامت به, كلها لا تعني شيئاً, لأنها الآن أضحت موتها ) , وقد انتحر (ريس) السنة الماضية.
خلال العمل لهذه المسرحية, أردنا الكشف عن وجه المرأة الشابة وراء الرمز السياسي,وراء موتها, ويقول (آلان ريكمان) وهو صاحب فكرة تحويل أعمال راشيل إلى دراما: (لن نقوم أبداً برسم راشيل كقديسة ذهبية أو التعامل معها بشكل عاطفي,ولكننا نريد أيضاً مواجهة حقيقة أنها حولت إلى شيطان, نريد أن نقدم صورة متوازنة).
لقد كنا نأمل باكتشاف الشيء الذي جعل راشيل كوري مختلفة عن نموذج شباب اليوم الاستهلاكي والبعيد عن السياسة.
وبعد الحصول على إذن من والدي راشيل لتحويل كلماتها إلى مسرحية, استلمنا طرداً كبيراً يضم مئة وأربع وثمانين صفحة من كتاباتها, معظمها لم ير من قبل , الكتابة تظهر امرأة عادية وفوق العادية, تكتب قصائد عن قطتها, أصدقائها, جدتها والريح,ولكنها أيضاَ ومنذ عمرصغير, انخرطت عاطفياً مع العالم, محاولة إيجاد مكان لها فيه.
الكتابات المبكرة التي بين أيدينا كانت سياسية, في عمر العاشرة كتبت (راشيل) قصيدة حول معاناة الأطفال في كل مكان وكيف تتمنى إيقاف الجوع مع حلول عام .2000
آثارها في الصبا كما يقول (ريكمان) تظهر أنها كانت ذكية وراوية قصص تمتلك خيالاً محلقاً, كما تظهر كتاباتها جدية لطيفة وقوة بصيرة في رؤية العالم ومكانها فيه.
في عمر الثانية عشرة كتبت: (أعتقد أنني كبرت قليلاً, على كل الأحوال الأمر نسبي, فتسع سنوات طويلة كأربعين سنة حسب عدد السنوات التي نحياها), في المراهقة بدأت راشيل الكتابة حول فكرة (نار في جوفي) والتي غدت متكررة فيما بعد.
زارت روسيا وهي الزيارة التي فتحت عينيها على بقية العالم وقد وجدتها: (متصدعة, ومتسخة, مهشمة ورائعة الجمال).
لقد كانت (راشيل) مرتبطة بشكل مذهل بوالديها وبالكتابة التي كانت تعبر من خلالها عن القلق الطبيعي حول الأمان والحرية والتي غدت مؤثرة جداً في ضوء موتها العنيف, في سن التاسعة عشرة كتبت لأمها: (أعلم أنني أخيفك ولكنني أريد أن أكتب وأريد أن أرى ولكن عما سأكتب طالما أنا قابعة فقط ضمن بيت الدمية العالم الوردي الذي نشأت فيه? أنا أحبك ولكنني أنمو خارج ما أعطيتني, دعيني أقاتل وحوشي, أحبك لقد صنعتني, لقد صنعتني).
وفي أواخر مراهقتها أظهرت ذلك الهاجس التقليدي حول المستقبل, وكتبت عن الرجال والحب, بدءاً من (الوقوع في هوى انسان يتركك بشكل دائم..ويروي كل القصص وكأنها أغان كئيبة) وانتهاء بالالتقاء بالصديق السابق مع حبيبته الجديدة, لقد كان ذكاؤها تهكمياً وهو واحد من الأشياء الأساسية التي يذكرها أصدقاؤها عنها.
تسارع تحول (راشيل) السياسي في بداية العشرينات من عمرها, لقد ذهبت الى كلية (اغرغرين) الليبرالية الشهيرة في (أولمبيا) التي هي بحد ذاتها مدينة ليبرالية, وبدأت بشجب الفكرة بأن أعلى مستويات الانسانية يعبر عنها من خلال ما نختار شراءه في السوق .
بعد الحادي عشر من أيلول انخرطت أكثر في النشاطات الجماعية, وتن¯ظيم مسيرات سلام ولكن كانت تتساءل عن العمل الأكثر عمقاً والمقابل لما تقوم به: (الناس يقدمون أنفسهم كدروع بشرية في فلسطين وأنا أمضي كل وقتي في صنع ملابس حمامة ودمية ضخمة).
وعندما قررت أخيراً الذهاب للشرق الأوسط شرحت سببها بوضوح: (إنني أحمل تلك الحاجة الأساسية للذهاب الى مكان التقي فيه بأشخاص على الجهة الأخرى من الجزء المقتطع من الضرائب التي أدفعها والذي يذهب لتمويل الجنود الأميركيين والآخرين).
ويصف (ريكمان) راشيل بعد وصولها الى رفح في قطاع غزة قائلاً: (لقد تغير إيقاع الكتابة بشكل دراماتيكي فقد أصبحت تمتلك وقتا أقل للتفكير ولكن يمكن أن تشعر بالرعب المتنامي في داخلها).
رسائلها من غزة كانت انفعالية وناقدة بشدة, مجسدة بذلك تجربة عميقة, ومع وصولها الى القدس صدمت من رؤية نجمة داوود وقد رسمت على أبواب القسم العربي من المدينة القديمة: (لم أر أبداً رمزاً يستخدم بهذه الطريقة).
في غزة حملت جثة رجل ميت على النقالة بينما كان الجيش الإسرائيلي يطلق النيران أمامها,وكان أغلب نشاطها بهدف الحماية, فكانت تمضي الليالي في منازل عائلات على الخط الأمامي من أجل إيقاف هدمها, ووقفت يوماً أمام عمال المياه عند بئر في رفح وهم يعملون تحت النيران, فقبل موتها كانت راشيل تعتقد ككثير من الناشطين أن ميزة كونها شخصاً أبيض دولياً يمكن أن تحميها .
رؤية الاحتلال بشكله العنيف ألهمت كتابات راشيل الأقوى وفي أيامها الأخيرة أدى غضبها وحيرتها مما رأت الى كتابات ذات قوة مذهلة وتصاعدية .
ولكن كمية المواد التي معنا تركتنا في حيرة فنحن لا نعرف الى أي مدى ستتضمن المسرحية مقاطع من حياة راشيل قبل ذهابها الى غزة, وهل علينا تسجيل أقوال الأشخاص الآخرين ?
فالتوجه في المسرح السياسي منذ مسرحية (دايفيد هير) (الطريق المستمر إلى بريطانيا فيكتوريا), ومسرحية (جليان سلونو): (غوانتانامو) هو التوجه الصحافي حيث تستخدم شهادات ومقابلات, وفي حالتنا لا توجد لقاءات مع (راشيل) حتى تغطي الفراغ, ومع موتها لم يبق لدينا سوى كلماتها, وقد استخدمنا بعضاً من رسائل أبويها (سيندي وكريغ) الالكترونية لها عندما كانت في غزة, إنها مفعمة بذاك النوع من القلق الذي يحمله الآباء تجاه أطفالهم عندما يكونون في وضع خطير, ولأن راشيل لم تعد إلى وطنها فقد حملا حرقة مدمرة, وقبل أسبوعين من موت ابنتها أرسلت (سيندي) رسالة لراشيل قالت فيها: (هناك الكثير في قلبي ولكن لدي مشكلة مع الكلمات. كوني آمنة, كوني بخير, هل تفكرين بالعودة للوطن ? بسبب الحرب وكل شيء?أعلم أنك لن تفعلي, ولكنني آمل أن تشعري بأنه سيكون من الجيد لو أنك فعلت). وماذا عن أصدقاء راشيل ? لقد قابلت الكثير منهم من الناشطين في (آي اس ام ) والذين تركوا إسرائيل بعد موتها . كما رأينا شريطي فيديو عن حفلي التأبين اللذين أقيما لذكراها, الأول في غزة حيث أطلق الجيش الإسرائيلي النار عليه, والثاني في (أولمبيا) كما تابعت بعض البرامج الوثائقية حول هذا الموضوع .
ولكن في النهاية يبقى الأهم وهو كتابات راشيل, فبعيداً عن كلمات والديها وشهود عيان, فإن كلمات راشيل قوية كفاية لتقف وحدها .
والتحدي كان بخلق قطعة مسرحية من مقاطع الصحف ورسائل بريدية والكترونية.
حاولنا أن نكون منصفين مع (راشيل) فلا نقدمها كقديسة ولا كخائنة, هي جدية ومضحكة, فوضوية وموهوبة, وتتمع بنفاذ بصيرة وإنسانية أو هي بكلماتها :(مبعثرة, منحرفة, وصاخبة جداً) اخترنا كلمات راشيل بدلاً عن كلمات آلاف الضحايا بسبب نوعية كتابتها وأسلوبها السهل وكما يقول ريكمان:( الجانب الناشط في حياتها يوازي بشكل كبير الجانب التخيلي, ولا أشك أبداً في أنها لو بقيت على قيد الحياة لنبع منها روايات ومسرحيات)والمأساة أننا لن نسمع المزيد من راشيل كوري .