في لبنان, ومع ذلك فإن هذه الرؤية السطحية تخفي واقعا يهدد بعودة الانقسام الطائفي, والاقتتال الأهلي ضمن ظروف اقليمية تلفها الشكوك المخيمة على العراق وفلسطين.
منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري صار لبنان وعلى حين غرة موضوعا لتصريحات شبه يومية للرئيس الأميركي جورج بوش, ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس, وكذلك للزعماء الأوروبيين ,وعلى رأسهم الفرنسيون وفي حين مر اصدار القرار رقم 1559 مرور الكرام جاء اغتيال الحريري كزعيم لبناني له وزن اقليمي ودولي أكثر من عادي والتحرك الفرنسي الأميركي تثيره التصريحات الإسرائىلية ليغرق هذا البلد الهش في اضطرابات تهدد مستقبله.
وورد في القرار الأممي 1559 مجموعة من النقاط التي تمس الوضع في لبنان, وتعود به الى الوضع الذي شهده قبل اتفاق الطائف عام 1989 يطالب البرلمان اللبناني عدم تعديل الدستور والتمديد للرئىس اميل لحود بينما جرى التمديد لسلفه الياس الهراوي, ورفيق الحريري عام ,1995 دون أن يرف جفن لباريس أو واشنطن.وهذا البند موضع دهشة في حد ذاته كون ميثاق الأمم المتحدة يحظر أي تدخل في الشؤون الداخلية لبلد عضو فيه.
بالاضافة الى أن القرار يطالب بسحب القوات السورية من لبنان, ونشر الجيش اللبناني على طول الحدود مع اسرائىل ونزع سلاح المقاومة اللبنانية الممثلة في حزب الله وكذلك الحركات الفلسطينية في المخيمات الأمر الذي يعني تهديد الاستقرار الذي شهده لبنان وجعله في وضع الدولة العاجزة.
ومنذ عام 1975 حتى عام 1990 شكل لبنان وضمن أحداث دموية شهدها رقعة شطرنج صغيرة للصراعات الكبرى التي جرت قبل (الحرب الباردة-الصراع العربي-الاسرائيلي-الخلافات العربية-الصراع العراقي-الايراني واسقاطاتها الاقليمية والدولية) وكانت هذه الصراعات جميعها تتبلور على الأراضي اللبنانية, ووفق بعض المسؤولين السياسيين على لعب دور غير مشرف كمفوضين تمولهم وتسلحهم قوى مختلفة اقليمية ودولية, واستخدمت الطوائف لخدمة هذه القوى, وستار من الدخان لوسائل الاعلام ونشر مزاعم (الكره القديم )الذي يمزق الشعب.
وآخر هذه الحروب كانت الحرب التي شنها العماد ميشيل عون ودعاها (حرب التحرير) ضد القوات السورية المتواجدة ما بين عامي 1988-1990 وكان يتلقى سلاحه من النظام العراقي الأسبق ويلقى دعما سياسيا ومعنويا كبيرا من قبل فرنسا (الى جانب مساعدات عسكرية), وكانت لهذه الحرب نتائج كارثية ولا سيما على الطائفة المسيحية التي كانت ضحية النزاع بين عون ومنافسيه, وأضيف الى هذه الاقتتال والقتال ضد القوات السورية, والذي انتهى الى تهميش المجتمع المسيحي اللبناني.
والحقيقة إن لبنان شهد خلال 14 عاما استقرارا عاما ولم يعكر صفو هذا الاستقرار سوى الهجومين اللذين شنتهما اسرائىل على جنوب البلاد عام 1993-1996 بحجة تأديب المقاومة ضد الاحتلال الاسرائىلي لجنوب لبنان منذ عام 1978 وانسحبت القوات الاسرائىلية من جنوب لبنان عام 2000 تحت وقع المقاومة والتي نجحت بالتعاون مع الجيش والأمن اللبناني في منع اسرائىل من زرع بذور شقاق بين الطوائف اللبنانية كما كان الحال عقب اجتياح عام 1982 عندما انسحبت القوات الاسرائىلية من جبل الشوف عام 1983 ومن منطقة صيدا عام .1985
ونجحت حكومات كل من رئىس الوزراء سليم الحص وعمر كرامي المتعاقبتان عامي 1991-1992 في نزع سلاح الميليشيات المتقاتلة, ودمجها في الجيش وكذلك توحيد البلاد وعاصمتها بيروت, وإعادة الروح الى الأوضاع العامة.
ونظمت حكومة رشيد الصلح الانتخابات الأولى منذ عام 1972 واستوعبت الحكومات المتعاقبة ممثلين عن جميع الأطياف وطرحت مسألة إعادة انتشار القوات السورية في سهل البقاع حسب اتفاق الطائف.
وظهر رفيق الحريري على المسرح كشخصية قادرة على إعادة اعمار البلاد وخاصة المركز التاريخي والتجاري لبيروت التي هزتها 15 عاما من الاقتتال الأهلي, ونالت تسميته رئىسا للوزراء رضا استثنائيا ليصبح الرجل الحائز على اجماع عام تقريبا وأثناء ذلك لم يعر أحد اهتماما لإعادة انتشار القوات السورية أو خروجها, وبعدما استقالت حكومته عام 1998 عاد الحريري وشكل حكومة جديدة في شهر تشرين الأول 2000 إثر الانتخابات التشريعية التي جرت في الصيف ولم يستطع أحد أن يدعي أن هذه الانتخابات لم تكن حرة أو أن سورية قادت لعبتها وأدهشت عملية إعادة اعمار لبنان ذات التكاليف الباهظة كثيرا من اللبنانيين وزوار لبنان الأجانب.
ومن كان يتخيل أن بيروت التي وجدت منذ عامين موقعها على الخريطة السياسية والسياحية والثقافية للمنطقة بفضل عملية تحرير الجنوب سوف تصبح مسرحا لأحداث مدهشة بقدر ما هي خطيرة? حيث استضافت في شهر حزيران عامي 2000 و2001 اجتماعات وزراء الخارجية العرب والقمة العربية وتبعها عام 2002 قمة الفرانكوفونية, وخلالها ألقى الرئىس الفرنسي كلمة له أمام البرلمان اللبناني أكد فيها ضمنا أهمية دور سورية في حماية لبنان لغاية حل الصراع الاسرائىلي-العربي, ومما قاله: إن السلام العادل والشامل والدائم لا يتم دون لبنان وسورية, وضمان حق اللاجئين الفلسطينيين حل يأخذ بعين الاعتبار المصالح اللبنانية هذا هو الموقف الفرنسي الدائم, والسير نحو هذا السلام يتيح لسورية ولبنان تنظيم علاقاتهما المشتركة, ويؤدي الى انسحاب القوات السورية من بلادكم حسب اتفاق الطائف, وحين عودة الحريري الى رئاسة الوزراء أكد في بيان سياسته العامة في خريف عام 2000 ضرورة بقاء القوات السورية في لبنان.
كل ذلك جرى قبل احتلال الولايات المتحدة للعراق, واطلاق مشروعها الشرق الأوسط الكبير واحلال النظام والديمقراطية وإنهاء الارهاب , وبهذا الطرح عادت الولايات المتحدة الى نفس الطروحات التي طرحتها الدبلوماسية الأميركية في عهد جورج بوش الاب, في مطلع التسعينيات,في غمرة الانتصار الذي حققه خلال حرب الخليج الاولى , حيث وعد بإنشاء نظام عالمي جديد.
وبعدها بعدة اشهر, اصدر شيمون بيريز كتابه, بعنوان الشرق الاوسط الجديد- اعلن من خلاله عن عهد سلام ورفاهية وتعاون اقتصادي بين كل شعوب المنطقة, لن يعكر صفوه سوى القوى التي تجسدها الحركات الاصولية الاسلامية.
وتتابعت اثرها المؤتمرات الاقتصادية الاقليمية الكبرى( الدار البيضاء- القاهرة- عمان - الدوحة) تجمع مسؤولين ورجال اعمال اسرائليين وامريكيين وأوروبيين وعرب وافرغت اتفاقيات اوسلو من مضمونها بسبب استمرار الاستيطان الاسرائيلي.وبعد فشل اتفاقيات كامب ديفيد والزيارة الاستفزازية لأرئيل شارون الى باحة المسجد الاقصى انفلت صمام الامان.
اندلعت الانتفاضة الثانية, وتسلحت امام شدة وعنف القمع الاسرائيلي , ولم تشغل بال الرئيس جورج بوش لعدم اهتمامه بحل القضية الفلسطينية بل اصبح الوضع في العراق هاجسه الاساسي . وكانت حكومة بيل كلينتون قد اعتبرت نظام صدام حسين يشكل تهديدا كبيرا للسلام في العالم, رغم فشل فرق التفتيش التابعة للامم المتحدة في العثور على اسلحة دمار.
وعقب احداث 11 ايلول اعتبر بوش بخلاف جميع الحقائق ان صدام حسين متورط بجميع الجرائم ,وانه يطور سلاح تدمير شامل جديد, وقرر احتلال العراق الحجر الاساس في توازن منطقة الشرق الاوسط.
وفقدت جميع الحجج التي قادت الى الحرب مصداقيتها. ودأبت الادارة الامريكية على اقناع العالم انها تحمل الحرية والديمقراطية للشعوب في المنطقة.وليس حربها لتحرير الشعب العراقي من نظام صدام حسين سوى خطوة اولى نحو اصلاحيات ديمقراطية معممة في الشرق الاوسط.وامام تصاعد حدة المقاومة ضد الاحتلال الامريكي في العراق, وجهت واشنطن اصابع اتهامها نحو سورية .
هذه الاتهامات الامريكية وضعت سورية في موقف الدفاع عن نفسها , كما عقدت ملف الاصلاحات وتبنت واشنطن في كانون الأول 2003 قانون محاسبة سورية للضغط على سورية , ولاسيما خاصرتها اللبنانية , وطالب القانون من سورية منح لبنان استقلاله التام.. وفي عام 2004 صدرت احكام رئاسية امريكية بتشديد العقوبات على دمشق . وبارك الجنرال عون في باريس وكذلك قوى ضغط لبنانية في واشنطن هذه العقوبات ضد سورية . وجاء القرار 1559 ليعد بإشعال النار كلما خمدت في واشنطن .
وعلى الارض اللبنانية جاء اجتماع قرنة شهوان لممثلي الميلشيات المتحدرة من القوات اللبنانية ,وممثلين عن عون, وبعض النواب المارونيين والرئيس امين الجميل,جاء ليزيد في توتير الاوضاع واعتبرت هذه المجموعة نفسها معارضة ليس لرئيس الوزراء الحريري فقط بل للرئيس لحود وللوجود السوري وبرنامجها يطالب بإرسال الجيش اللبناني الى الجنوب ليحل محل المقاومة اللبنانية, واطلاق سراح سمير جعجع, المسجون,بتهمة العديد من الاعتداءات, واخيرا انسحاب الجيش السوري.
وعقب تحرير الجنوب اللبناني , طالبت العديد من البلدان الاوروبية بنشر الجيش اللبناني على طول الحدود مع اسرائيل وعودة المقاومة الى داخل البلاد ونزع سلاحها, إلا أن الوعود التي اطلقها الغرب لإعادة اعمار هذه المنطقة المحتلة لمدة 22 عاما ذهبت ادراج الرياح. ومن ثم جاءت الحرب ضد العراق لتحجب هذا الموضوع. اضافة الى أن التهديدات الأميركية ضد سورية أججت موجة احتجاجات ضدها.
وأشعل اغتيال الحريري أزمة كبرى, في وقت كان فيه البلدان سورية ولبنان في وضع حرج وضحيتان لرهانات جيوسياسية اقليمية. وكان اللبنانيون قد شعروا مع محاولة اغتيال النائب مروان حمادة أن عهدا من الاستقرار والرفاهية قد ولى.
ويبحث الرئيس بوش وعدد من الزعماء الأوروبيين في جعل لبنان مختبراً ديمقراطياً بعد الانتخابات العراقية والفلسطينية,والانتخابات البلدية السعودية, ويرون أن الذهاب الى صناديق الاقتراع تجعل (نفحة الحرية) أمرا لا يقاوم.
وبالتأكيد انهم يجهلون تعقيدات الوضع في لبنان, وما تشكله دمشق بالنسبة للرأي العام العربي فهي العقبة الأخيرة في وجه الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط, والعقبة في وجه الحلول غير العادلة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني, وهي المحتلة أراضيها منذ عام .1967
وإن تباهت المعارضة اللبنانية بأنها تسيطر على وسط لبنان, فإنها في جنوبه وشماله وبقاعه تصطدم بمجموعة (الشرعيين) المطالبة بالتحالف مع سورية.
وهذه المعارضة التي كان معظم أفرادها قبل وقت قصير دعائم للوجود السوري, تعاني انقساما في صفوفها بسبب الميول السياسية غير المتجانسة.
وتضم جماعة (الشرعية) أو (عين التينة) عددا من الأحزاب المؤيدة للحكومة اللبنانية وسورية, ملتفة حول حزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله, هذا الحزب الذي تعتبره الولايات المتحدة في قائمة الإرهاب, وموضوع داخل الإعصار.
صار أداة توحيد, ورمز آخر لميول لبنانية مناهضة للامبريالية.
ومنذ اغتيال الحريري, ولبنان يشهد حينا مظاهرة مؤيدة ومظاهرة مناهضة, الأمر الذي أدى إلى شل الحياة في البلاد.
والسؤال كم من الوقت ستحتاجه واشنطن وباريس لإغراق لبنان في مثل هذه الأزمة, دون أن يتفجر اقتصاده الهش المثقل بالديون في الواقع مع الوضع الذي عاد إليه لبنان بصدور القرار رقم .1559
يعكس الوجه السياسي للبلاد من جديد كافة التوترات التي تعصف بالشرق الأوسط, وتستهدف الانشقاق اللبناني بزخم لا عقال له الآن.