وكيف يجب أن تصان ونرتقي بها إلى حيث يجب أن تكون, ولكن ماذا عن الفعل العملي على أرض الواقع؟ هل يكفي أن نعقد الندوات ونكتب المقالات, وننسى في اليوم الثاني ما كنا عليه, ويعود كلّ منا إلى أدراجه يلوذ بلهجته العامية وينتظر العام القادم ليطل من جديد بإعادة المعزوفة ذاتها؟
هذه حالنا جميعا, من مؤسسات تربوية وثقافية وتعليمية, وإعلامية, وعلى خجل لن نستثني تلك التي تعنى بصون اللغة وحمايتها (يفترض هكذا) غدا المشهد ضربا من الإهمال الذي يقتل كل شيء, فما بالك بلغة هي من نبض الحياة تسمو وتكبر وتزدهي بازدهائها, وتموت بموتها, لن نأتي بجديد إذا ما قلنا: اللغة كائن حي يتطور وينمو بنمو الافراد والشعوب والأمم, وتزدهي اللغة وتنتشر بمقدار ما لأبنائها من قوة فعل وثراء ثقافي ومعرفي في المشهد العالمي, في الأدب والطب والعلوم المختلفة, ما يقدمونه من إبداعات وابتكارات, يطلقون عليها الأسماء التي يريدون, ومن ثم تنتشر في العالم كله, فمن يخترع الآلة هو من يطلق الاسم عليها, فهل قدمنا خلال عقود من الزمن أي اختراعات وجعلنا ما اخترعناه حاجة بشرية, صدرناها مع المصطلح الذي أطلقناه عليها..؟ لن أدعي الإجابة ولا اسعى لذلك, فالأمر معروف ومحزن, وكم نأمل أن نكون في يوم من الأيام قادرين على تجاوزه لنصبح شركاء الاختراعات والابتكارات, ولتكون لغتنا العربية موجودة في كل مكان من العالم.
اليوم, نحتفي باللغة العربية, فهل نحتفي بها كحالة عابرة كما أسلفت من حيث التمجيد والحديث عن جمالياتها, وهذا واجب وحق علينا, أم علينا الحديث عن الكثير من الاخطار المحدقة بها والتي تكاد تحولها إلى رقعة لغوية تغزوها آلاف المفردات والمصطلحات التي لايعرف أحد ما كيف العمل على الحد منها بالسرعة الممكنة لئلا تتحول إلى ورم سرطاني يغزو جسدها الذي مازال حتى الآن يحافظ على نضارتها, ولكنه يطلق إشارات التحذير: إنني اقترب من المنحدر..
فصام لغوي
لن نختلف على أننا في عصر الثورة المعرفية والانجازات التقنية المهمة جدا وأن الشبكة اليوم بما تقدمه من تطبيقات ومواقع تواصل هي التي تفعل فعلها, ولها المكانة الكبيرة في المشهد كله, فما الذي قدمته مواقع التواصل الاجتماعي, وكيف يبدو النسيج اللغوي على امتداد الفضاء الأزرق في معظم صفحات التواصل الاجتماعي؟
هل ندعي أنه بخير, بالتأكيد: لا, العامية واللهجات التي كادت تنقرض بيوم من الايام عادت إلى الظهور وأخذت منحى غريبا, ثمة من يعمل على دعمها وتغذيتها وتقديم ما تحتاجه حتى تغدو أمرا واقعا تماما, فهل جربت أن تقوم بإحصاء المفردات العامية التي يتم تداولها, بل كيف ترسم الحروف, وتحول الحركات (الكسرة إلى ياء, والضمة واوا: أنتي - لهمو - عليكي) قس على ذلك.
واقع يكاد يترسخ, ولابد من العمل السريع على معالجته من المؤسسات المعنية كافة, من البيت إلى الأسرة, إلى الإعلام إلى مجمع اللغة العربية ولجنة التمكين لها, ما من احد خارج المسؤولية, نعم.
الأمن اللغوي هو أمننا بمعانيه كافة، فمن عرف لسان قوم أمن شرهم، عرف تفكيرهم، قرأ ماعندهم وخطط لما يريد.. هل سأل أو تساءل المعنيون لدينا: لماذا تعمد إسرائيل إلى تعليم أطفالها اللغة العربية وتختار قسماً منهم ليتعلموا اللهجات العربية والمحلية لكل بلد في معاهد وجامعات، ثم يلقى بهم إلى حيث يجب أن يكونوا ويريدوا.. وما نراه الآن ليس إلا نتاجاً حقيقياً لهذا..
هل يتساءل المعنيون لماذا تخصص جامعات ومعاهد عالمية منحاً دراسية لطلاب عرب شرط أن ينجزوا أطروحاتهم باللهجات العامية، أو أن تكون عنها، أو عن أي شيء يشتت ويمزق..
وهل نسأل: لماذا يطرز الباحثون مايقدمونه بآلاف المصطلحات الأجنبية وبعضهم لايعرف حتى لفظها..؟! هل نبحث عن أسباب جهل طلابنا بجماليات لغتنا، وأبعد من ذلك: لماذا نرى المدرس وقد عاد- حتى مدرّس اللغة العربية - إلى اللهجة العامية.. طلاب ومدرسون وأطباء ومهندسون لايتقنون أبسط قواعد اللغة العربية وتراهم يقبلون على دورات اللغة الأجنبية.. ماذا فعلنا لتجاوز ذلك.. أين المؤسسات المعنية بدءاً من المدرسة مروراً بالجامعات وصولاً إلى مجامع اللغة العربية.. ونسأل كيف للاعلامي أن يقدم نفسه وهو لايتقن أول أبجديات لغته العربية...
لن ندّعي أننا قادرون على تقديم رؤى للخروج من هذا التيه، فثمة مؤسسات معنية بالأمر ولديها خبراؤها, وطاقاتها، صحيح أن بعضهم لاعلاقة له باللغة لامن قريب, ولامن بعيد، ولكن ذلك لايقلل من أهمية مالدينا, وعلى هذه المؤسسات تعلق الآمال الكبيرة مع علمنا أنها تخوض أصعب المعارك وأشرسها, وليست مهمتها بالسهلة أبداً ولكننا محكومون بالعمل..
أمننا اللغوي أساس أمننا الكامل, ولن يعود مادمنا خارج إطار النتاج الثقافي والعلمي والتقدم والمشاركة في ركب الحضارة، فيوم كانت دولة العرب سيدة العالم كانت لغتها سيدة اللغات لأنها لغة العلم والثقافة والابداع آنئذ..
لغتنا ليست قميصاً نرتديه حين نحتاجه، ولاهي وجبة سريعة.. إنها وجودنا الثقافي والحضاري والعلمي.. ألم يقل حافظ ابراهيم ذات يوم:
سرت لوثة الافرنج كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
لوثة الفرنجة غزت محالنا التجارية وفي عقر دارنا, فهل من يدفع عنا هذا التلوث اللغوي الذي نراه اليوم؟ لايكفي أن نحتفي باللغة بيومها, لابد من قرارات صارمة تصونها وتحميها, ويكون لها (القرارات) وقع التنفيذ والقوة, لا أن تبقى حبرا على ورق.