وعبدتها. إن السحر الذي يغلف كلمات النصوص، يغلق أمامنا الباب الضيق للإجابة عن تساؤلات كثيرة. ومن السذاجة الاعتقاد أن ما وجدنا من نصوص ومخطوطات ورقم طينية، كانت كافية لتعرفنا على منشأ هذه الديانات، وأفكار أصحابها الأوائل، وطرق عيشهم.
يحاول الكاتب الروسي ميغوليفسكي الدخول إلى جوهر الديانات القديمة في كتابه «أسرار الديانات القديمة»، ويبحث في منابع مختلف هذه الديانات، ويفتش عن المشترك بينها في طرحها لسؤال الوجود. تناول الكاتب الديانات المصرية وديانات ما بين النهرين، وديانات الإغريق، والزرادشتية والهندوسية، والسيخية، والبوذية، والكريشنائية، والكونفوشية، والتاوية وديانات أخرى سادت في زمن ما.
الديانات المصرية
ليست هناك معطيات كافية لتشكيل تصور عن ديانة مصر القديمة وآلهتها قبل الألف الثالثة قبل الميلاد. وما جرى تأكيده في ذلك التاريخ وجود مملكتين قويتين هما: مصر العليا ومصر السفلى، كانت قد اندغمتا في دولة مركزية واحدة. ومنذ ذلك التاريخ يمكن التحدث عن ديانة مصرية واحدة. شكل التحالف والتوحد مملكة قوية، بدأت بالانهيار في أواخر الألف الثالثة وأوائل الألف الثانية قبل الميلاد، وسمي هذا العهد عصر المملكة الحديثة، الذي امتد حتى أواسط الألف الأولى قبل الميلاد.
منيت مصر بعدة هزائم خلال تاريخها الطويل، وكان أشهرها احتلالها من قبل الإسكندر المقدوني، ومن ثم احتلالها من قبل الرومان في القرن الأول قبل الميلاد. ورغم كل هذا بقيت مصر على ديانتها القديمة، إلى أن انتشر الدين المسيحي، ولم تندثر نهائياً، إذ إن هناك تيارات صوفية تعج بكثير من الرموز والشخصيات الميثولوجية المصرية.
عبد المصريون – ككثير غيرهم من شعوب العالم – الشمس، وكانت لديهم هي الإله الرئيس. كان رع الإله الرئيس، وبجانبه عدد من الآلهة الأخرى أقل منه مرتبة وتابعة له، وهذا ما حدا بالفرعون المصري أمينحوتب الرابع أواسط الألف الثانية قبل الميلاد، إلى إصدار تشريع لعبادة الإله الواحد أطلق علتيه اسم «آتون» أي «قرص الشمس». وغير الفرعون اسمه الشخصي تبعاً لذلك، وصار يدعى أخناتون «النافع آتون». ومع موت أخناتون، عاد المصريون إلى عبادة آلهتهم المتعددة، وبقي زعيمها الإله رع.
ومن الآلهة المصرية القديمة: الإله الخالق بتاح، آمين، موت، خونسو، إيزيس، أوزيريس، وحاثور إلهة الحب والفرح. وهذه كلها آلهة تشبه البشر وتصور كبشر. أما الآلهة الخليطة التي تملك جسداً بشرياً ورأس حيوان فهي: سخمت زوجة بتاح لها جسد امرأة ورأس لبوة، توت له جسد إنسان ورأس طائر أبي منجل، أما إله النور حورس، فقد كان له رأس صقر، ولإله الماء سيبيك رأس حوت، ولإله الخصب خنوم رأس كبش. أما الإله رع رب الآلهة، فقد كان مظهره يتغير حسب الدور الذي يقوم به، إذ تجسد مرة بمظهر العجوز آتوم، وأخرى بمومياء، وثالثة إلى هر..
كان المصريون يبجلون بعض الحيوانات ويقدسونها، منها الأبقار والهررة والخرفان والثيران، وأبا منجل والطاووس، والثعابين والأسماك. وتدل الاكتشافات بأن المصريين كانوا يحنطون حيواناتهم كما يحنطون فراعنتهم. وكانت عقوبة قتل الحيوان المقدس، هي الموت الأكيد.
من بين الأمور الجميلة والملفتة في فكر المصريين، أنهم كانوا يعتقدون أن الإنسان يتألف من ست أو حتى من عشر طبقات، أو أجساد. وأثناء الموت الجسدي، تختل مكونات الإنسان. ويمكن استعادته، أثناء اتحاد إله الشمس بموميائه. وعندما يموت الجسد الفيزيائي، يجب تحنيطه، وتأمين ضروريات العيش له، لذلك كانت توضع له التقدمات من طعام وشراب، حيث يمكن للجسد الميت أن يخرج من القبر بفضل النصوص السحرية المنقوشة على جدران الضريح.
صور المصريون الروح طيراً له رأس بشري. وهي في حال خروجها من الجسد تنطلق حيث تشاء، ولكنها هي التي تقدم حساب الإنسان في محكمة أوزيريس في العالم الآخر.
يقول أحد الموتى متوسلاً:
أنا لم أتسبب للناس بأذى
أنا لم أؤذ حيواناً
أنا لم أرتكب إثماً
أنا لم أقم بعمل قبيح أمام الآلهة
أنا لم أكن سبب علة
أنا لم أقتل
أنا لم آمر بالقتل
أنا لم أتسبب لأحد بألم
أنا لم أبذر مؤونة المعابد
أنا لم أفسد خبز الآلهة
أنا لم آخذ خبز الموتى
أنا لم أضع عراقيل أمام الإله عند خروجه
أنا نقي، أنا نقي، أنا نقي.
ما بين النهرين
استوطن الإنسان في بلاد ما بين النهرين منذ أربعين ألف سنة خلت. ولكن المنطقة عرفت انفجاراً سكانياً في الألف العاشرة قبل الميلاد، وتحول الناس إلى ممارسة العمل الزراعي وتربية الحيوانات. إلا أن ما هو مدون يخبرنا عن تاريخ هذه البلاد في الألف الرابعة قبل الميلاد وما بعد.
يبدأ التاريخ المدون من العبيديين الذين بنوا أول شبكة قنوات ري صناعي، وبعدهم جاء السومريون، من دون ذكر المكان الذي هاجروا منه. أسس السومريون مدناً، كانت متناحرة فيما بينها، وتتطلع كل منها للاستيلاء على قطعة من أراضي الأخرى. ولذلك وقعت سومر في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد تحت سيطرة جارتها الشمالية آكاد التي كان يحكمها الملك سرجون. وسقطت آكاد فيما بعد تحت سلطة العموريين من الغرب والعيلاميون من الشرق.
من بين قادة العموريين اشتهر حمورابي الذي لم يؤسس قوانين الدولة الببلية فحسب، بل وأسس الدولة نفسها، وامتدت دولته أبعد من بابل وضواحيها لتصل إلى شواطئ الخليج العربي حتى ماري على الفرات ونينوى على دجلة. استمرت دولة بابل من عام 1792 حتى 1595 قبل الميلاد، وسقطت بعد ذلك بيد الكاشيين الوافدين من جبال زاغروس، واستمروا في حكمها حتى عام 1155 قبل الميلاد.
انقسمت بابل إلى دولتين، آشور في الشمال، وبابل في الجنوب، ولكنهما كانتا متصارعتين على الدوام، انتهى الأمر إلى انتصار آشور، فقام ملكها سنحاريب في العام 689 بتدمير بابل وتسويتها بالأرض. إلا أن بابل استعادت مجدها ونهضت وشكلت كياناً مستقلاً من جديد عام 626 ق.م، وتحالفت مع جيرانها من القبائل الميديانية، وهزمت الإمبراطورية الآشورية. ولم يطل الوقت بدولة بابل حتى سقطت من جديد تحت ضربات الملك الفارسي قورش، وغابت عن مسرح التاريخ نهائياً.
إن طقوس العبادة الأولى لدى أبناء وادي الرافدين، بدأت حين كان الناس يضعون الحبوب في مخازن، وكانوا أقاموا حول المخزن المقدس طقوساً مهمة، كانت ترتبط بالمحصول، بالخبز، باعتباره الحياة. وكانوا يقدمون القرابين ويرفعون الصلوات للآلهة، كي تحفظ لهم محصولهم.
فيما بعد ظهرت المدن الكبرى، وتنوع نشاط المعابد، فبالإضافة إلى أنها كانت تملك المراعي والقطعان والأراضي الشاسعة، كانت المعابد تدير تجارة برية وبحرية نشطة مع البلدان المجاورة، وتقدم قروضاً بفائدة متفق عليها، وتملك ورشاً حرفية. وفي الوقت نفسه عرفت المعابد كمراكز ثقافية وتعليمية، تضم الأرشيفات والمكتبات والمدارس.
تعددت آلهة بلاد الرافدين بتعدد المدن والقرى، إلا أن هناك آلهة تملك القوة والقدم منهم «آنو» إله السماء، و»أنليل» إله الرياح، و»أنكي» إله المحيط والمياه الجوفية العذبة. وقد شرع الناس بتصوير الآلهة على صورتهم ومثالهم، ويزوجون الآلهة، إذ يقدمون للإله فتاة تقضي الليل بانتظاره في المعبد على السرير الذهبي. ومع التقدم الإداري الذي حدث في نمط عيش الرافديين، غيروا نمط عيش آلهتهم لتناسب تقدمهم، وصار هناك كبير آلهة، وحامل العرش، والحارس.
ربط الرافديون آلهتهم بالكواكب، وكان لكل مدينة أيضاً إلهها الحارس، لذلك ارتبطت المدينة بدورها بالفضاء الكوني، وهذا جعل سكان المدينة يشعرون بقوة من نوع خاص، لأنهم على ثقة بأن الإله الكوني لن يتركهم يعانون وسيحميهم.
من اللقى الأثرية نجد أن هناك مجموعتين من الآلهة: الأنوناكي والإيجيجي. كان الإيجيجي يشاركون في الاجتماعات العامة، ويعبرون عن رفضهم أو قبولهم للقرارات المتخذة. أما الأنوناكي فقد كانوا يحضرون مجالس الآلهة ويشاركون في اتخذ القرارات المصيرية.
تقول ملحمة أتراحاسيس: «عندما كان الآلهة، كما البشر، ينهضون بالأعباء ويحملون السلال، كان الشغل مضنياً والمشقات عظيمة، فألقى الآلهة الأنوناكي السبعة العظام، بأعباء العمل على كاهل الإيجيجي، وعلى طول ألفين وخمسمئة سنة، عملوا ليل نهار بمشقة، فتعالى صراخهم وامتلؤوا غيظاً. لقد ضجوا من أعبائهم وصرخوا: نريد أن نرى الحاكم».
تتطور الأحداث في الملحمة، ويقرر الإله إنليل مع الأنوناكي تخفيف الضغط عن الإيجيجي، فيقررون خلق الإنسان لكي يقوم بما تقوم به الإيجيجي. قام «إيا» ومعه «مامي» الحكيمة بخلط دماء واحد من الإيجيجي بالطين وجبلا الإنسان الأول. ومنذ تلك اللحظة بات الناس يحملون السلال، ولم يعد الآلهة يفعلون ذلك.
الكتاب: أسرار الديانات القديمة
الكاتب: أ. س. ميغوليفسكي
المترجم: د. حسان مخائيل إسحق
الناشر: دار علاء الدين، دمشق