انعكاسات فوق مرايا الحلم، حوار مع كائنات خفية مجهولة وطرق على بوابة الليل والمستحيل. أن نكتب ما لم يكتبه أحد، أن نقبض على السر الذي تغطيه أبخرة الشمس. عذاب يلد الفرح، عتمة تلد الضوء، أسئلة تلد سؤالاً لم يسأله أحد. واقع لا يكتفي بالوقع وإنما يتجاوزه ويرى ما فوقه وما تحته. حقائق لا تكتفي بالحقائق، بل تحاول إبطالها والبحث عن بديل لها، سفر دائم إلى جزيرة لا تكشف عن نفسها إلا لنا، رحيل إلى أرض لم تطأها قدم قبلنا، تعامل مع كيمياء السحر التي تحيل نهر السراب إلى نهر يفيض خصباً وحناناً، ذلك هو التحدي الذي يطرحه الإبداع القصصي.
كنت واهماً عندما نشرت أول قصة، وخرجت لأرى إذا ما كان الناس في الشارع قد صاروا أطول قامة، لأنني ما نشرت تلك القصة - وأقول هذا وأنا شديد الخجل من اعترافي بها - إلا بهذا القصد، أي بدافع بناء الإنسان الجديد وخلق واقع جديد. كان الواقع مازال كما هو، والناس ما زالوا كما هم. حتى بعد أن أخرجت لهم قصتي وأضاءت لهم بنار الإبداع الطريق. تألمت ألماً كبيراً، وأدركت أن المهمة ليست بهذه البساطة والسهولة،
وأن تغيير العالم لا يحدث بقصة قصيرة واحدة. لم أعد بعد ذلك أنظر إلى الناس وإنما أنظر إلى نفسي بأمل أن أرى قامتي قد ازدادت طولاً (كنت في ذلك الوقت ما زلت صغيراً لم أتجاوز سن السابعة عشرة) مكتفياً بتلك المكافأة التي تقدمها لنا غواية الكتابة، عندما نستعيد دور آلهة الأساطير ونجلس محتمين بخلوتنا ووحدتنا في غرفة لها سقف وجدران لننتقم من العالم الخارجي الذي يرفض الاستجابة لدعوتنا، نخلق بشراً ونحدد لهم مصائرهم، ونصوغ لهم أقدارهم، نحييهم ونميتهم. نسعدهم ونشقيهم، ونعبث بحياتهم كما نشاء (من قال إن الكتابة هي مهنة الرجل الوحيد).
كتبت أول ما كتبت القصة القصيرة، اعتماداً إلى أن البيئة التي جئت منها، بجذورها ذات الانتماء إلى المجتمع البدوي الرعوي - الزراعي، لا تتيح للكاتب فرصة التعبير عنها إلا من خلال القصة القصيرة، باعتبارها صوت الإنسان المأزوم، المحاصر والمقموع، شحنة انفعالية، وتقطير للتجربة الإنسانية، ووسيلة قادرة على استيعاب هموم إنسان تحكمه التقاليد العشائرية التي تفصل بين الرجال والنساء، وتضعه في قالب يشبه القوالب الأخرى. يغيب ذلك المشاهد البانورامي الذي تتشابك فيه العلاقات بين رجال ونساء وتتنوع فيه النماذج والأنماط والأفكار ويزخر بغنى العواطف والانفعالات ويخلق حركة وصراعاً يغذيان العمل القصصي الطويل (لعله جورج لوكاش الذي قال إن ظهور الرواية ارتبط بظهور المجتمع البرجوازي). وكتبت أثناء ذلك عدداً لا يحصى من الصرخات التي نسميها، مقالات، لأن أكداس التخلف من حولنا كانت تحتاج إلى ذلك القول الصريح الواضح المباشر الذي يسمى الأشياء بأسمائها، والذي لا تستطيع أن تقوله المعالجة الفنية الإبداعية (من ذا الذي يستطيع أن يعزف على قيثارته أمام بيت يحترق؟).
هل نطمح حقاً إلى تحقيق تقنية عربية لهذا الفن الذي جاءتنا تقنياته الحديثة من ثقافات أخرى؟
إن هاجس التجريب والتأصيل وتحطيم القوالب المستعارة يبقى هاجساً نبيلاً دون شك، ولكنني لست مع الذين يخدعون أنفسهم ويقولون إنهم يؤسسون فنّاً؛ نحن جميعاً نعرف أنه تأسس وضرب جذوره في ثقافتنا العربية. إنها ليست مسألة تأسيس، وإنما تأصيل وتطوير، ومحاولة أن نمنح هذه التقنية الحديثة لوناً عربياً. وهذا ما أتمنى أنا أيضاً تحقيقه في هذا العمل الروائي. الاتكاء على نصوص قصصية تراثية والتحاور معها واستنباط شيء من عوالمها، محاولاً الاستفادة من طريقتها الدائرية في القص واستلهام مناخاتها الأسطورية.
شيء آخر في ثقافتنا يمكن أن يعزز هذه المحاولات التأصيلية ويؤكد الشخصية العربية في الإبداع الروائي، وهو روح الشعر. لم يرتبط أي فن من الفنون بأمة من الأمم كما ارتبط الشعر بأمتنا العربية. ومعنى ذلك أن هذا المخزون العظيم ليس مجرد نصوص، إنه روح ومزاج وحساسية، وهذه الروح هي التي يجب أن نهتدي بها ونستفيد منها في تلوين أشكال التعبير الأخرى، أي استخدام هذه الطاقة الشعرية في بلورة مدرسة عربية في القصة والرواية. وعندما أقول إنني استفدت من هذه الروح في كتابة الرواية، فلا أعني أنني – واهماً- أحاول أن أجعل من الرواية قصيدة شعرية، لأنني أدرك أن الشعر غالباً ما يكون تعاملاً مع المطلق، والمعاني والأفكار المجردة، والتناول الشمولي لقضايا الحياة، بينما القصة تعامل مع الحياة في تفاصيلها ووقائعها اليومية، واستخدام اللغة الشعرية في القصة والرواية يجب أن يكون موظفاً بهذا الاتجاه. وإلا أفسد حركة القصة وعرقل نمو أحداثها وتحول إلى عبء ثقيل عليها. وفي هذه الحالة فمن الأفضل أن يكتب الكاتب قصيدة بدل أن يكتب قصة.
أعتقد أن مهمة القصاص أن يكتب قصة، لا أن يتحدث عنها.