كان لها جذورها القومية والثقافية في المسيرة الحضارية للأمة العربية وجذورها الاجتماعية والنضال ضد الاستعمار ومنهم من بحث في العوامل الذاتية لهذه النشأة فحلل مسيرة تطور الوعي النضالي والفعل النضالي وصولاً إلى تحديد السمات الفكرية المميزة للبحث في مضمونها الايديولوجي وفي رؤية لعملية التغيير الاجتماعي, ولا شك في أن التراكم الكمي للأحداث التي أعقبت الاستقلال وتطور التجربة الجماهيرية النضالية التي رافقت هذه الأحداث أدى إلى قيام ثورة الثامن من آذار التي بشرت بعهد جديد يبدد ظلام عهود الاستعمار والرجعية ويقضي على سلبياتها ورواسبها.
ولن أتطرق إلى المسألة التنظيمية والفكرية في سياق حياة الحزب الداخلية وتفاعلها مع تطور حركة الجماهير ونشاطها ومصالحها والارتقاء بها إلى مستوى الفعل الذي قاد الثورة, ولكنني سأقوم بالمرور على أهم المراحل التي شكلت معالم متميزة في مسيرة الحركة النضالية الجماهيرية التي جعلت ما حدث يوم الثامن من آذار انعطافاً نوعياً أنهى مرحلة طويلة من تاريخ نضال البعث وأعلن بداية مرحلة كبرى ما زالت مستمرة حتى تاريخه.
أولاً: مرحلة 1947 ولغاية 1958:
حفلت هذه المرحلة بأحداث تاريخية كانت بمنظور البعث إنجازات يفخر بها إذا ما أخذت بسياقها العام وظروفها التاريخية, فقد شهدت هذه المرحلة استقلال سورية والعديد من الدول العربية, ونجح الوعي النضالي للجماهير في مواجهة الأحلاف الاستعمارية وتحقيق العديد من التحولات الاجتماعية في سورية وبعض الدول العربية, فقد انطلقت المقاومة الفعلية للصهيونية منذ اغتصاب فلسطين ودعا الحزب لتشكيل كتائب مسلحة لتحرير فلسطين وإنقاذها بالقوة المسلحة ونشأ مكتب فلسطين الدائم ودعا أعضاؤه إلى التطوع والالتحاق بجيش الإنقاذ وفعلاً قاتل المئات من البعثيين على أرض فلسطين وشارك الحزب في المؤسسات الرسمية (برلمان وحكومة) فاستطاع التأثير بشكل مباشر وغير مباشر على الجماهير فحركها للضغط باتجاه الاقلال من سلبيات السلطة التقليدية والاكثار من تبني القوانين الايجابية, كما ساهمت هذه المشاركة في تبني سورية لمواقف وطنية مكنتها من الصمود في وجه الضغوط الغربية ومشروع ايزنهاور وحلف بغداد إلى أن توج الحزب انتصاراته هذه التي تمت عبر الأطر المؤسسية للنظام البرلماني التقليدي بقيام الوحدة مع مصر عام 1958 وهو ما اعتبر فعلاً ثمرة من ثمرات نضال الحزب في الخمسينيات.
ثانياً: مرحلة الوحدة والانفصال 1958-1961:
في الثاني والعشرين من شباط من عام 1958 أعلنت الوحدة بين مصر وسورية وتفوق البعثيون على أنفسهم فقاموا بحل الحزب في الجمهورية العربية المتحدة إيماناً بالوحدة لكنهم سرعان ما تنبهوا إلى نشاط القوى الرجعية المدعومة من الامبريالية ضد الوحدة فكان لا بد من إعادة تنظيم الحزب وتمتين دوره فأعلن المؤتمر القومي الثالث انطلاقة الحزب الجديدة وأكد مسؤولية الحزب في ترسيخ أسس دولة الوحدة وحمايتها والدفاع عنها والتعاون الوثيق مع قيادتها في تحقيق أهداف الشعب العربي ورسالته, لكن القوى الانفصالية طورت العداء ما بين الجماهير ودولته الفتية وغيبت التنظيمات الشعبية القادرة على حماية الوحدة ما ساعد على تفعيل القوى المعادية لها من الداخل والخارج وأبعدت جميع الضباط البعثيين إلى الإقليم الجنوبي وعينوا في مناطق نائية ما أتاح الفرصة للقوى الرجعية التي استطاعت بخبثها ودهائها أن تكون القريبة والماسكة باليد على زمام الأمور في الإقليم الشمالي وهي التي حققت الانفصال في عام 1961 لكي تخلو لها الساحة من العناصر الوطنية والوحدوية وسرحت أو سجنت أو أبعدت جميع الضباط الذين كانت قد أبعدتهم إلى الإقليم الجنوبي أثناء الوحدة وحدث الانفصال.
ثالثاً: ما بين الانفصال والثورة:
لقد تبين لمناضلي الحزب أن المواجهة أصبحت حتمية مع النظام الانفصالي الذي كرس عودة سيطرة التحالف البرجوازي والاقطاعي ووصلت التراكمات إلى نقطة اللا عودة.
رابعاً: مرحلة الثورة:
في مثل هذا النهار منذ خمسة وأربعين عاماً بزغ فجر حدث أحدث ثورة في المناهج السياسية والاجتماعية والاقتصادية في سورية القرن العشرين ولم يكن الحدث إلا تتويجاً للمخاض القومي الذي مرت به البلاد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
كما أن الأربعينيات والخمسينيات ولدتا من المعاناة القائمة من جراء الاستعمارين التركي والفرنسي ولم تكونا لوحدهما بداية المخاض لكن التيار القومي الجارف الذي تخلف عن الاستعمارين التركي والفرنسي والذي سبقهما كان نزوعاً تحت الرماد تظهره الأحداث وتخفيه بعض ضروب القمع من الأنظمة القائمة آنذاك.
لذا فقد كان حدث ثورة الثامن من آذار استجابة حتمية لنداء ملح من كل أطياف التيار القومي والتي جسدها بشكل جلي حزب البعث العربي الاشتراكي.
كما أن هذا الحدث كان بروزاً مفصلياً في حياة الأمة وقيمها ترك البصمات النافرة ذات الهوية الواضحة والتي نراها اليوم بعد مرور خمسة وأربعين عاماً وذلك بعد أن تقطعت أحابيل المؤامرات وتكسرت هجمات كل قوى التآمر على شطآن التصميم والعزيمة.
ومن طبيعة وبديهيات ومستلزمات المناسبة أن نذكر أن ذلك الحدث الفجر الذي عنه تتحدث إنما كان حلة وطنية بهية حاكها وصنعها ووشحها الرئيس الخالد حافظ الأسد.
وبوصفي شاهداً على الحدث فقد كان لي شرف العمل تحت لواء القائد الرمز مشاركاً في إذاعة البيانين رقم 1-2 عام .1963
لقد كان الرئيس حافظ الأسد بحق رقماً وطنياً صعباً يشق تجاهله في زمان تشتد فيه اللجج والعواصف بحيث استطاع منذ ذلك الزمن أن يشد سورية إلى بر الأمان صامدة كالطود تتكسر دونها كل أعاصير الدسيسة والغدر والمخططات المغرضة.
إن المجد والمنجزات التي حققها القائد الخالد لسورية ناطقة بعظمة محققها الذي رصد ذاته متنقلاً بين دمشق والقاهرة وبغداد وغيرها من العواصم العربية من أجل تحقيق أهداف الحزب في الوحدة العربية.
وككل عظيم صادف في مسيرته مناوئين ومقاومين له لكن الربان لم تلن له عزيمة ولا فترت له همه حتى اللحظة الأخيرة.
وبما أن التاريخ لا يبنى لشخص ولا لزمان أو مكان, فالعظماء يرسون القواعد ويبدؤون بإشادة الصروح والرسالة أبداً تحتاج لمن يكملها فكان سلفاً وخلفاً وخير من اختار لخير من اختير, حريصاً على الأمانة دؤوباً على النهج مقتدياً بذات النبراس وبذات العزيمة والوتيرة دون كلل إنه الرئيس بشار الأسد في ظله يستظل الوطن وبه تشرف وتكتمل الرسالة.
فلنحيي معاً بهذه المناسبة التراب الذي يضم جثمان حافظ الأسد ونعاهده بأن الأمانة التي وضعها في أعناقنا ( في أمان) وكان همه ألا يموت قبل أن يعيد الجولان ونحن نقول له اليوم نم قرير العين ونعاهدكم أن نحقق هذه الأمانة وأن بضعة الأمتار التي اختلفت عليها مع كلينتون في جنيف (على شواطىء طبريا لن نضحي بشبر واحداً منها) وستكون إكليل غار يتوج جبهة الوطن.