وعبر غزو العراق في آذار 2003 اختار الأميركيون الدولة الأضعف وليست الأقوى, أما إيران فقد اعتمدت أسلوباً مختلفاً عن العراق, إذ نجحت لفترة طويلة في المناورة مع المفاوضين الغربيين, وإضافة لذلك فإن الجمهورية الاسلامية في إيران تتمتع بشعبية أكبر من التأييد الذي كان يحظى به نظام الرئيس صدام حسين, ولعبت ايران بذكاء ومكر بعد الاحتلال الأميركي للعراق وناورت جيداً في ملفها النووي مستغلة اختلاف واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وموسكو إزاءها.
تعتبر إيران أن مسألة انتشار أسلحة الدمار الشامل لم تكن في الحقيقة سوى ذريعة كاذبة, استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية لغزو العراق .والحال هذه تمثل حرب العراق عنصراً حاسماً في قرار التشدد الإيراني. وقد أثرت الأكاذيب الأميركية سلباً على صدقية التنديد بمخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل والأدهى من ذلك هو أن كوريا الشمالية قد واصلت باطمئنان وثقة مساعيها لامتلاك ترسانة نووية في الوقت الذي تسير فيه طهران بملفها النووي.و الحقيقة أن طهران لاحظت أن العراق الذي كان يصرح بأنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل وقبل بعمليات التفتيش الدولية, قد شنت عليه حرب في حين أن كوريا الشمالية التي سلكت نهجاً معاكساً نعمت بالسلام فاستنتجت الجمهورية الايرانية أن سبيلها الأفضل للحفاظ على نفسها هو امتلاكها للقوة هذا فضلاً عن أن الولايات المتحدة المتورطة في المستنقع العراقي ستكون أقل قدرة على المناورة وفي ممارسة الضغوط على طهران لذلك وجد الايرانيون في الظروف المحيطة ما يحثهم على التمرد.
الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش تحضر جدياً لاستخدام القوة العسكرية لإجبار الجمهورية الإسلامية الايرانية للعدول عن برنامجها النووي, والمسألة مطروحة بقوة في واشنطن بعد سلسلة من المقالات المنشورة من قبل مجموعة من الخبراء المهمين في هذا المجال.الخبير جوزيف سيرينسيون المتخصص في المسائل النووية نشر مقالاً في مجلة فورينغ بوليسي تحت عنوان:( اخدعني مرتين) يؤكد فيه أنه حتى الوقت الحاضر وضعت هذه الاحتمالات للضربات العسكرية على حساب محترفي نظريات المؤامرة.
إذ إن بعض أعضاء الإدارة ومنهم ديك تشيني نائب الرئيس قد قرروا أن الخيار العسكري يكمن في ضرب ايران ,الأمر الذي سيقود إلى زعزعة النظام إنه يقوم بدراسة تقارير متعددة أكدت استعدادات واشنطن لاستخدام القوة العسكرية ضد طهران, ولعل أبرزها ما ذكرته مجلة ( نيويوركر) الأميركية من أن ( الإدارة الأميركية تخطط لعملية قصف واسعة ضد أهداف في إيران تستخدم فيها قنابل نووية, مخترقة للتحصينات لتدمير مرافق ايران النووية التي يشتبه أنها تستخدم لإنتاج أسلحة نووية باعتبار أن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد هو ( أدولف هتلر جديد محتمل) ولا يمكن تقديم التنازلات له بل يجب مواجهته بالقوة .
كما أن جريدة ( الغارديان) البريطانية و(النيويورك تايمز) الأميركية تحدثتا عن وجود خطط أميركية مماثلة غير أن الملاحظ أن صحيفة ( صنداي تايمز) وضعت في أحد أعدادها خريطة توضيحية لإيران متضمنة خطة تفصيلية لكيفية استخدام صواريخ كروز أو العمليات الجوية المكثفة لاستهداف المواقع الإيرانية النووية, مشيرة إلى أن استخدام القوة ضد طهران أصبح( حتمياً) على العكس من صحيفة » واشنطن بوست) التي حذرت من أن الخطط الأميركية ستعني اشتعال العنف في المنطقة كلها من خلال علاقات إيران بحزب الله فضلاً عن احتمال توطيد العلاقات مع القاعدة ,فضلاً عما قاله مستشار سابق بوزارة الدفاع الأميركية» البنتاغون) » إذا نفذنا تلك الخطط فإن القسم الجنوبي من العراق سيشتعل كالشمعة).
كما يبرز هنا التقرير الجديد ل » استراتيجية الأمن القومي الأميركي) الذي جاء مكملاً للتقرير الذي نقلت نشرة » تقرير واشنطن) عن الصحفي الأميركي سيمور هيرش تأكيده أن الرئيس الأميركي جورج بوش سيلجأ إلى شن حرب على إيران , وقال : إن التخطيط الجاري حالياً يفوق مستوى ما يصطلح عليه خططاً افتراضية يتم اللجوء إليها في حال الضرورة), وتابع إنه خلال الأشهر القليلة الماضية بلغت عمليات التخطيط إلى مستوى التخطيط العملياتي ودخلت في المرحلة التي يقوم فيها المسؤولون باستخدام المخططات الاحترازية المتوفرة في السجلات ,وإيجاد معلومات استخباراتية جديدة بشأنها وكذلك البحث عن الأهداف التي يمكن قصفها, بالاضافة إلى تحديد نوعية الأسلحة التي يجب استخدامها وعددها والأماكن التي سيتم إسقاط تلك الأسلحة فيها).
وأضاف هيرش في المقابلة مع » تقرير واشنطن) أعتقد أن ل »الإسرائيليين) دوراً في ما يحدث كما أعتقد أن ما يحدث الآن هو أنه أصبح مفهوماً لدى الجميع أن الأميركيين سيقومون بذلك» قصف المنشآت النووية الإيرانية) وهذا هو ترجيحي, ولكن المفهوم هو أنه يتعين على »الإسرائيليين) التزام الصمت وترك الأميركيين يقومون بذلك فلماذا يقلق» الإسرائيليون) إذا كان الأميركيون ينتهجون سياسة مفيدة لهم بعد أن أصبحت إيران قوية وبعد أن أخذ العالم علماً بذلك.
في المواجهة العسكرية الأميركية الإيرانية المحتملة يبقى الميزان العسكري مائلاً بدرجة واضحة لمصلحة واشنطن, رغم أن إيران ستلحق الأذى بقواعد أميركا و» إسرائيل) وعلى الرغم من ذلك فإن هناك إدراكاً أميركياً أن أي إجراء عنيف من عقوبات أو ضربات عسكرية سيؤجل البرنامج النووي الإيراني ويؤخر تنفيذه ولن يهدمه تماماً ولكنه سيزيد من شرعية النظام الإيراني ومن التفاف الشعب الإيراني حوله, وهو ما يعني أن تحقق واشنطن هدفاً مرحلياً بتدمير المفاعلات النووية الإيرانية.
ويبدو أن التصور الأميركي الحالي لمواجهة إيران توسع ليس لضرب أو قصف مفاعلات ايران النووية فقط بل إن إدارة الرئيس الأميركية جورج بوش مالت نحو تغيير يبدو جدياً في التعامل مع الملف الإيراني,فبحسب » واشنطن بوست) و»هآرتس) تعتزم واشنطن انتهاج سياسة من شأنها تصعيد التوتر في المنطقة من خلال ممارسة ضغوط متزايدة على طهران تستهدف النظام الإيراني .
ولاشك أن هذا ليس إلا بداية وفي سبيل الوصول إلى تحقيق هدفها لن تتوانى الإدارة الأميركية عن استخدام كل الوسائل التي تملكها, فالعقوبات التي تطالب مجلس الأمن بفرضها على إيران , لا تستهدف فقط وقف, أو أيضاً تعطيل, البرنامج النووي الإيراني إنما وظيفتها تكمن في زعزعة النظام ويدخل الخيار العسكري المثار لضرب المنشآت النووية الإيرانية في هذا السياق.
وهناك خيار المقايضة الذي يتطلب تفاوضاً أميركياً -إيرانياً مباشراً وجهاً لوجه حالياً ,لا يوجد مثل هذا التفاوض الذي يجب أن تطرح فيه كل القضايا على الطاولة قد تكون هناك اتصالات وأفكار بينها التحدث عن العراق حصراً .ويجوز أن يكون هناك حوار سري يتم عبر قنوات أو مباشرة, إنما لا مؤشر إلى وجود تفاوض على شمولية الملفات المعنية بإيران والمنطقة.
العديد من المحللين الغربيين يعتقدون أن إدارة الرئيس بوش لن تعقد أي » صفقة كبيرة) مع إيران تهدف إلى تقاسم النفوذ معها في العراق أو في منطقة الخليج, أو التفويض لإيران أن تلعب في الساحة العراقية دوراً مهيمناً لأن ذلك سيؤدي إلى تقوية الدور الايراني في المنطقة مما يهدد موازين القوى حالياً ويتعارض مع المصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية والغربية.
*كاتب تونسي