فبدت عيناه شاحبة تنظر إلى البعيد عندما ينفض الناس من حوله ويمضي ليحل في عالم النسيان..
قضى أبو أحمد أكثر عمره في سلك الشرطة بمركز مرموق, هو الآمر الناهي وهو السيد ولا ينازعه إلا من هو أعلى منه سلطة, مضى على تقاعده ثلاث سنوات, التقيته في إحدى المقاهي بين صحبة من أصدقائه تجمعهم الحال نفسها فقال:
رغم الأعباء الكثيرة وضغوطات العمل التي لا تنتهي كنت أشعر بالمتعة ومن قال إن العمل ليس متعة أما الآن فأشعر بالفراغ وقلة الحيلة, أقضي معظم وقتي متنقلا بين هذا المقهى وذاك وبين هؤلاء الصحب وغيرهم.
بدأت الحياة تفقد طعمها الحلو فمثلي ماذا يمكن أن يعمل ولم يمتهن غير مهنته الأساسية ولا ننسى أننا لم نعد في قوة الشباب..
وتابع: هل تصدقين أن كلمة المتقاعد تشعرني بالاحباط وأحيانا اليأس وأن لا جدوى ترتجى مني بعد الآن وهذا ينعكس سلبا على نظرتي للحياة أمعقول أن تنتهي حياتنا على مقاعد المقاهي ودخان النرجيلات ولم يشأ أن يتابع حديثه بل اكتفى بتنهيدة كادت تفضح ما يعانيه من الملل القاتل والتهميش دون حدود.
حرية وخلاص من القيود
يختلف الأمر عند السيد حسن سادات الموظف السابق في تفتيش الدولة فالتقاعد عنده حرية وخلاص من القيود, يقول: لا مشكلة لدي فأنا متصالح مع نفسي واستطعت أن أجعل للحياة طعما آخر املأ وقتي بزيارة الاصدقاء والمطالعة, والمقهى مكان لا بأس به ( ورغم أن التقيته في إحدى الحدائق) للقاء الآخرين وقضاء ساعات بصحبتهم, صحيح أنه موبوء بالضجيج ورائحة الدخان ولكن لاخيار..
لم أفكر بعمل آخر بعد انتهاء خدمتي لأني لست بحاجة لإيراد جديد فالراتب يكفي والحمد الله وبرأيي أن حق الإنسان أن ينال قسطا كافيا من الراحة بعيدا عن العمل وضغوطاته..
ولكن ما أود قوله إنه يجب إعادة النظر بالراتب التقاعدي أسوة بالدول الأخرى التي تعطي للمتقاعد في الوظائف الهامة الراتب كاملا دون نقص, هذا من جهة ومن جهة اخرى يملك المتقاعد خبرات متراكمة لذا على الدولة الاحتفاظ به فترة أطول كما حصل في قانون الجامعات حيث رفع سن التقاعد للسبعين, فليس عدلا أن يكون تأمين عمل الشباب على حساب خبرة الكبار.
ماذا يحدث في البيت
لن أذهب بعيدا فما حدث في منزل والدي ربما يعد نموذجا مصغرا لما يحدث عند الآخرين عندما يتقاعد الزوج ويسكن إلى زوجته ساعات طويلة لم تعتد هي عليها وتدخلاته اللاارادية في كل شاردة وواردة, ما يؤدي إلى شجار دائم وبدل أن يتجدد الحب والوئام تشتعل الخلافات ولا تترك للود مكانا وكان الله في العون ويتحول المنزل إلى حلبة للصراع, كل منهما يسعى للسيادة والنصر ولكن ماذا عن الابناء.. هل قدرهم أن يكونوا ضحايا هذه السجالات التي تبدأ ولا تعرف أين وكيف تنتهي.
خبرات ضائعة
يؤكد المهندس المدني سمير قباني قصور النظرة الاجتماعية ونظرة المؤسسات إلى المتقاعد لأنهم يقيسون الأمور بمقياس القوة والعضلات والعمر ,متناسين الفكر والخبرة, وخير من ذلك كله كان على الدولة أن تعنى بهذه الكفاءات عن طريق استثمارها بشكل ايجابي وفاعل وذلك عن طريق إجراء مسح شامل لعدد المتقاعدين في الاختصاصات كافة ومن ثم تصنيفهم حسب اختصاصاتهم ضمن مجموعات عمل استشارية للاستفادة من خبراتهم, وواجب النقابات المهنية أن تعنى بشؤون هؤلاء عن طريق استحداث لجان من مهامها البحث في اوضاعهم وتقصي امكاناتهم للاستفادة مما يمتلكون من خبرات عملهم الدؤوب وهذا يتطلب عملا جادا ومثابرة مضنية للوصول إلى نتائج تنظم على إثرها تشريعات تناسب أوضاعهم وتلبي احتياجاتهم..
وهم بعد ذلك بأمس الحاجة إلى تنظيم يجمعهم ويستمع إلى مقترحاتهم وآرائهم فالحياة عندهم مستمرة ولن يوقفها القانون بقراراته وسجلاته..
نفتقد الاهتمام
الاستاذ الجامعي باسيل الخوري يقول: يجب تغيير النظرة الخاطئة للمتقاعد لأن انتهاء فترة العمل المخصصة وترجله الاجباري عنها لا يعني في حال من الأحوال انتهاء لصلاحيته أو أنه بات لا طعم له ولا لون ولا فائدة بل مازال قادرا على العطاء فيما لو توفرت له الشروط المناسبة من قدرات وخبرات تناسب وضعه النفسي والاجتماعي, وهو بحاجة بعد ذلك لرعاية نفسية واجتماعية وذلك عن طريق تأمين أماكن أو منتجعات أو نواد لقضاء وقت يمتعه ويشعره بالأمن و الامان ويشغل ساعات نهاره الطويلة بما هو مفيد وممتع أسوة بالدول المتقدمة التي توفر دخلا مناسبا للقيام برحلات ترفيهية وتوفر لهم الضمان الصحي.. وما أحوجهم لذلك وإشغالهم بما هو مفيد وفاعل..
تمتع بشيخوختك
وأسأل من كان بها خبيرا ينصح د. فخر الدين القلا الاستاذ في كلية التربية جامعة دمشق أن يعمل المتقاعد بما يجذب له المتعة سواء عن طريق كتابة مذكراته المتراكمة خلال عشرات السنين أو القيام بأعمال لا تتطلب جهدا عضليا أو التدريس لساعات قليلة ما يطيل في عمره..
فقد أثبتت الدراسات العلمية أن الذين يعملون بعد التقاعد يعيشون فترة أطول من الذين يتقاعدون ولا يعملون شيئا, وأستشهد بذلك بكتاب لعالم النفس الأميركي ( بوريس سكنر) في كتابه: تمتع بشيخوختك سواء في الدواء أو في الحياة اليومية أو في الاستعداد للموت.
أخيرا
لا يمكن أن نتجاهل هذه المرحلة من العمر لأنها الاغنى خبرة والأكثر نضجا فليست دائما قوة الشباب ومرحهم هي مقياسنا وأي مقياس أعظم من خبرات متراكمة وتجارب حية فاعلة وإنسان ناضج لا يزال ينبض قلبه بالحب والعطاء..
فهل يصبح النسيان مثواهم أم نفسح لهم مكاناً في قلوبنا لنسير معا إلى المستقبل السعيد..