وكأني بالشاعر, يقول ها أنا ذا.. من يقرؤني سيعرفني, ويدرك هويتي, ويحفظ قلبه كينونتي..
فقد وضع الهماش في ديوانه الرابع عشر أربعا وثلاثين قصيدة, حمل معظمها ذات النبرة, نبرات الرثاء, التي انشغلت بالحس الإنساني المفعم بعذابات «الغير»، وشفقة الذات على «الغير»، وعلى الذات..
وتتكرر في طيات القصائد, مشاهد الرحيل من حارة إلى أخرى, ومن بلدة إلى أخرى, ومن مدينة إلى أخرى, ومن أطلال إلى أطلال, دون أن يتعب الشاعر من هذا الترحال المضني, وارتحل الشاعر من نص إلى نص, بل ومن صورة إلى صورة, عبر التصادم الجريح بين المفردة وأختها, والمفردة وأضدادها, وكأنه رأى في أسلوب التصادم الذي سار عليه, استنطاق المعنى الكلي الذي يتحرك فيه, وكشفه للعيان من دون وجل أو رهبة, فالبوح عند الشاعر سجية طيبة المذاق..
قرأت الديوان الأحدث للشاعر طالب هماش.. الذي أنتج فيه مشاهد من كيانه, مشاهد درامية مثقلة بالألم والحزن, نقلنا فيها من معنى لآخر, ومن صبر إلى صبر, في تناغم جميل بين الأوزان, تاركا خلف هذا التنقل, المعنى يتدفق بالغناء والشعر, وكأنه أراد أن يثبت لدى المتلقي, حقيقة رائعة مفادها, أن الإحساس هو ببساطة ذلك الشعر الموزون الذي يرقى إلى الغناء, وحيث يتدفق الدم بالعروق بفعل النبض, يتدفق الغناء هو الآخر عبر القصيدة, والإحساس عبر الشعر..
ثنائية بديعة أحدثها الشاعر للإحساس الحالم, بين الرؤيا والرائي, بين المرسل والمتلقي, بين الإنسان وفضائه, وبين الشعر وجمهوره..
يقول الشاعر في قصيدته «لو كان لي»:
لو كان لي ياحزن أغنية
لحدثت الكمنجة عن فراق حبيبتي
وبكيت أسباب الرحيل!
لو كان لي امرأة لا أنساها
نسيت العمر يلعب في ضفائر شعرها
وقطفت رمان الأصيل!
بيدين من قمح
ونومت العصافير الصغيرة فوق ركبتها
وأبكيت الهديل!
لقد اختار الشاعر المفردة الجريحة, واللغة الجريحة, ليكتب, ويرسم, لا بل ويحلق بجناحيه في فضاءات الشعر, ولكم يحلو للمتلقي هذا الطيران المفعم بالإحساس والجمال, رغم مشاهد الاغتراب وصوره, فالمتلقي هو الآخر يحتاج هذا الاكتشاف عبر ترحالات القصيدة, التي رسم الشاعر مشاهدها في خاطره, فكان الفنان المبدع الذي ألقى لوحاته في خواطرنا بحساسية ووعي لأحوال النفس البشرية وتقلباتها ويومياتها العاصفة, بكل مااختلج ويختلج فيها من لواعج الفقد والحرمان..
ولاغرابة!!
فبيئة الشاعر التي عاش فيها وذابت في آلامها, والواقع الأليم الذي عايشه, ورآه وجعا إنسانيا لايمكن لعقل بشري أن يصنعه, فالفكر الإنساني بريء من حمل الناس على الوجع, وانشطار الأحلام, وتلاشي المحبة وسقوط الجمال في الأرض, وإلا فكيف يعيش الإنسان بلا قلب مجردا من السمو وقيم التسامح والسلام..
هكذا وجدت الشاعر, يتنقل بين النثر الإيقاعي, أو اللانثر واللا ايقاع, حيث اقتضى المشهد الشعري لديه, فهل خاف هدر مفرداته دون طائل في النص, أم إنه شاء ما كان لتميز أراد انتهاجه!!
يقول في قصيدته «بائع الكتب العتيقة»:
يابياع الكتب المنسية
بين محطات الباصات!
كم صار الوقت الآن ؟
فأنا أتسكع طوال الليل
وإحساسي بالعالم إحساس سكران!
ملأ الناس زجاجات الدمع
اشتغل الشاعر بعمق وجرح على تجسيد الفراق والرحيل وصور العذابات التي انطوى عليها أبعاد كل منهما, في كثير من نصوص مجموعته, ورجع بنا إلى فضاءات الشعر العربي العتيق, حيث أصالة المعنى, وعمق الصورة, فلجأ إلى الأطلال والوقوف عليها, معيدا إلى ذهن المتلقي, حال الفقد والهجران والغربة, وهي المعاني التي دأب على تجسيدها, ومهر نصوصها بأسلوبه المتميز, فمن مرابع الطفولة وصورها الحية في ذاكرة الشاعر, إلى مشاهد اليفاعة والشباب, وأرصفتها وشوارعها المحفورة في نفسه, وتجواله بين المكتبات, محطات, ومحطات, لم تزل عامرة في وجدانه.
إن اهتمام الشاعر بتشكيل الصورة الشعرية, جعل لغته, لغة خيال شعري بديعة, لغة خيال حسية نابضة بالحياة, ابتعد فيها عن التجريد, ورأيناه ينشئ صورة, تتخذ من طبيعة الفن والإبداع التلقائي, هدفا للنص, حيث تحققت لغته, وجاءت بثقل بلاغي, دفع بانفعالاته إلى أقصاها..