للإجابة على هذا السؤال لا بدّ لنا من معرفة حقيقة الهدف الكامن وراء هذه المؤامرة, وطبيعة الأساليب المعتمدة في تنفيذها . وهنا من المؤكد أن الولايات المتحدة تتخذ من العصابات الإرهابية التكفيرية أداة لها وذريعة , حتى في حالة الادعاء بأنها معنيّة بمحاربتها. وهذا الاستثمار ليس من النوع البسيط , بل المركب والمعقد . ولن يكون ممكناً فهم المنحى الذي يسلكه هذا الاستثمار دون الإحاطة بالهدف النهائي أو الاستراتيجي الذي تسعى اليه .
لقد حاولت الولايات المتحدة ترويج الانطباع القائل بأن غايتها في المنطقة تتمثل في تغيير الأنظمة بأخرى أكثر ديمقراطية في التعبير عن الإرادة الشعبية , أو أكثر انسجاماً مع أهداف السياسة الأمريكية . ولكن بما أن الماءَ يكذب الغطاس , فإن الولايات المتحدة يصعب عليها تفسير الأمور التالية :
1 – اعتمادها أنظمة استبدادية بدوقراطية في مواجهة أنظمة أقرب الى المعايير الديمقراطية , فكأنها تعمل بعكس ما تدّعي .
2 – استهدافها أنظمة كانت موالية للولايات المتحدة في إطار الاستهداف الشامل للمنطقة , مما يعني أن هناك شيئاً ما غير حكاية الولاء تسعى لتحقيقه .
3 – عرقلتها لأي حلول سياسية للأزمات التي أثارتها , وتبنّيها منطق اللجوء الى العنف عبر تشكيل مجموعات إرهابية مسلحة .
4 – استخدامها للعصابات الإرهابية التكفيرية والمرتزقة ومن في حكمهم من الضالين والمضللين لممارسة أسوأ أشكال الإفساد في الأرض .
5 – سعيها الى إشغال واستنزاف الجيوش الأساسية في المنطقة باستثناء الجيش الصهيوني الذي تدأبُ على تزويده بأحدث ما في ترسانتها من الأسلحة , ممّا يدلل على محاولة مقصودة للإخلال بتوازن القوى في المنطقة لصالح العدو الصهيوني .
حين ننظر الى هذه المعطيات نظرة إجمالية , نخلص الى الاستنتاج القائل بأن الولايات المتحدة تسعى الى تحقيق أقصى درجات « التفتيت الاستراتيجي» , باستثمار كل الأدوات التي يمكن أن تسهم في هذا التفتيت بغض النظر عمّا بين هذه الأدوات من تناقضات , بل بفضل ما بينها من تناقضات , وباللعب على هذه التناقضات . فكلما ازدادت التناقضات , وكلما ازدادت دموية الصدامات , وكلما ازداد حجم الخراب والدمار الناجم عنها , كلما اقتربت أمريكا من غايتها في التفتيت الاستراتيجي .
والسؤال : ما هي حاجة الولايات المتحدة لهذا التفتيت الاستراتيجي ؟ .
لا نظن أن هناك من يمكن أن يجيب بادّعاء النية الأمريكية في الاحتلال المباشر للمنطقة. فمثل هذا الاحتلال الأمريكي المباشر يبدو خارج الحسابات تماماً , ربما ليس فقط بسبب التجربة المريرة للاحتلال في العراق وأفغانستان واضطرار أميركا للانسحاب , ولكن أيضاً لأن المنطقة موضع البحث تدخل في حسابات التوسع الصهيوني . ولا يمكن لأحد أن يتخيل بأن تقوم أميركا بالاحتلال المباشر للمنطقة التي يطمع الصهاينة باحتلالها لتسليمها للصهاينة والانسحاب منها , وهذا ما جعلها تلجأ الى أسلوب « الحرب غير المباشرة » بهدف تحقيق التفتيت الاستراتيجي مستعينة بكل الأطراف والأدوات التي تستطيع استغلالها في محاولة تحقيق ذلك .
إن من لديه أدنى إلمام بالاستراتيجية الصهيونية يعرف أن أول أهداف هذه الاستراتيجية يتمثل في « التفتيت الاستراتيجي « للمنطقة . وبالتالي , فإن الحاجة الأمريكية لهذا التفتيت هي حاجة إسرائيلية , والأدوات التي تستخدمها لتحقيق هذا الهدف , ومهما تنوعت , إنما تخوض حرب إسرائيل بالنيابة . وما يحدث عملياً أن هناك إدغاماً مقصود بين هدفي الإدارة الأمريكية المعلنين صراحة والمتمثلين بتحقيق المصالح القومية وضمان أمن إسرائيل . فالإدارة الأمريكية تجد نفسها مضطرة للحديث عن المصالح – حتى وإن كانت مبهمة – حتى لا تضطر للإقرار بأن المحرك الوحيد لحربها غير المباشرة يتمثل في ضمان أمن إسرائيل .
في ضوء هذه الحقيقة , يصير من السهل فهم أبعاد السلوك الأمريكي وما فيه من تناقضات , على أنه محكوم بالهدف الإسرائيلي الذي هو في مضمونه الفعلي لا يتمثل بالحفاظ على وجود وأمن إسرائيل ضمن حدود الاغتصاب الراهنة , وإنما يتمثل عملياً في محاولة تحقيق حلم إسرائيل بالتوسع من الفرات الى النيل , وذلك بإزالة العوائق التي تحول دون هذا التوسع , وإزالتها جزءٌ من عملية التفتيت الاستراتيجي . فما هي العوائق المطلوب إزالتها أميركيا وإسرائيلياً ؟ .
إن هذه العوائق هي :
1 – وجود أنظمة سياسية شرعية كاملة السيادة معترف بوجودها دولياً , إذ أنه لا بد لمن يطمع في احتلال أراضي بلد آخر من إيجاد أوضاع معينة تسمح له بالتوسع بعد تقويض الدول القائمة ونشر حالة من الفوضى والصراع , أي إيجاد ظروف تشابه الوضع الذي صار يعرف بالصوملة .
2 – تقويض القدرات الدفاعية العسكرية التي تتيح تأمين قدر معقول من توازن القوى في المنطقة , لتجنيب العدو الصهيوني أخطار الحرب الشاملة إذا هو بادر الى الحرب قبل تقويض الجيوش الفاعلة ومنظوماتها الدفاعية وخاصة الصاروخية .
3 – تدمير إرادة المقاومة أو إضعاف قدرتها على التصدّي من خلال إيجاد أوضاع تحول دون تمكينها من مواجهة الغزو بالكفاءة المناسبة عبر حرمانها من مصادر الدعم .
إن إنجاز هذه الأهداف مجتمعة هو الهدف الذي يحكم السياسات والأساليب التي تتبعها واشنطن ومحاربوها في حربهم . فتقويض شرعية الدول وقدرات الجيوش وإرادة المقاومة هي تحديداً مستلزمات تمكين إسرائيل من تحقيق حلمها التوسعي . وهذا ما تسميه أميركا على سبيل التمويه والتضليل بضمان أمن إسرائيل .
وحين نفهم الموقف على هذا النحو , يتضح أن الدول أو الحكومات المستهدفة بشكل أساسي باحتلال أراضيها أو أجزاء من هذه الأراضي , هي : مصر وسورية ولبنان والعراق والأردن والكويت والسعودية , وأن الجيوش المستهدفة هي جيوش سورية ومصر والعراق بشكل أساسي , وأن إرادة المقاومة مستهدفة في هذه الأقطار وفي فلسطين التي هي حتى الآن في حالة احتلال .
إن إرجاء التعامل مع الوضع في بعض هذه الأقطار , مثل الأردن والسعودية والكويت , بل واستثمار هذه الأقطار في التآمر على أقطار أخرى قيد الاستهداف حالياً , لا يعني إطلاقاً أن تلك الأقطار خارج الاستهداف . كل ما في الأمر أن القوى المعادية تعرف أنه إذا ضربت الحلقات الرئيسية سقطت الحلقات الثانوية دون أن يكون بمقدورها إبداء أدنى مقاومة , ودون أن تجد من يهب لمساعدتها . فالأقطار التي يستثمرها الأمريكي والصهيوني ضد السوريين والعراقيين واللبنانيين أو ضد المصريين اليوم , ليست أقطاراً ناجية من المؤامرة كما قد يتخيل حكامها وهم ينخرطون في التآمر , وإنما هي مدرجة على قائمة الانتظار , ومثلها مثل الدجاجة التي تعفّر التراب على رأسها بل أسوأ . وإذا نحن فكرنا قليلا في طبيعة الأدوات التي لا بد من استثمارها في تنفيذ مخطط بالأبعاد التي أوضحناها , تبيّن لنا أن الجماعات الإرهابية التكفيرية , التي تدّعي أنها سلفية جهادية , هي الجماعات الأكثر ملاءمة للاستثمار . ومع ذلك, فإن تنويع الجماعات , وإثارة الصراعات بين بعضها والبعض الآخر , والتمييز فيما بينها بين معتدلة ومتطرفة وبين بين , هي جزء من مستلزمات الصوملة . كما أن تشكيل أميركا لحلف يدّعي محاربة داعش ينسجم تماماً مع متطلبات المخطط التآمري المرسوم , ذلك أنه وفق محددات ما أسميناها بالعوائق المطلوب إزالتها لتمكين إسرائيل من أن تضرب ضربتها, فإن الضربة الاسرائيلية في نهاية المطاف يراد لها أن تكون ضد هذه العصابات الإرهابية وخلافاتها وإماراتها ودويلاتها بالذات . ولعل هذا ما يفسر تلك النبوءات الأمريكية عن الحرب الطويلة المدى مع داعش , وهي الحرب التي قدروا بداية أنها تحتاج الى ثلاث سنوات, ثم أخذوا في تصعيد الزمن مفترضين الحاجة الى أكثر من 10 سنوات أو 15سنة . وكلها تخرصاتٌ تعكس حقيقة المخطط الذي ينفذون . فقد كانت تقديراتهم من قبل مختلفة تماماً , إلا أن الصدمة السورية التي قابلت مخططهم جعلتهم مضطرين الى العمل على إبقاء المخطط قيد المراوحة مع محاولة التفكير والتدبر لإيجاد وسائل بديلة يتغلبون بها على فشلهم .