إلى رئاسي والتربع على عرش السلطنة لأعوام قادمة والتحكم بمقاليد الأمور كما يشاء، لم يفارق رئيس النظام التركي رجب أردوغان مخاوفه وهواجسه القديمة بشأن إمكانية إعادة الانقلاب على نظامه وشخصه، وهو المسكون برعب المحاولة الانقلابية التموزية عام 2016 والمصير الأسود للرئيس السابق عدنان مندريس، بحيث استأنف حملته «لتطهير» مؤسسات الدولة التركية من معارضيه ومناوئيه عبر شن حملة إقالات جديدة فيها شملت نحو 18 ألف موظف معظمهم في المؤسستين الأمنية والعسكرية، في حين كان يعد مناصريه قبل أيام بأن يكون رئيسا لكل الأتراك دون استثناء، وهذا ما لم يحدث ولن يحدث.
خشية أردوغان المستمرة من الانقلابات ومن معارضيه في الجيش والأجهزة الأمنية رافقته منذ عام 2002 ومازالت تلاحقه بحيث لم يترك فرصة مواتية إلا واستغلها للتخلص من كل من يشك بعدم ولائه لنهجه وفكره الاخواني، وكان دأبه في السنوات الماضية إشغال الجيش التركي بمعارك دائمة سواء في الداخل أو الخارج لينشغل بها عن ممارساته الطائشة، وهكذا تصور اردوغان أن عرش «السلطنة» سيستتب له ويصبح حاكما إخوانياً مطلقاً مع التطلع لتوسيع نفوذه على مستوى المنطقة، ليثبت خلال سنوات حكمه الستة عشر أنه نقيض العلمانية التي تتغنى بها تركيا، بدلالة اصطفاف التيار المحسوب على العلمانية في صفوف المعارضة، وكانت المفاجأة أيضاً خروج معارضين له من داخل التيارات الإسلامية الشبيهة بحزب «العدالة والتنمية» أو المنشقة عنه.
يقول أردوغان في أحد خطاباته مراوغاً: «لن يهدأ لنا بال قبل أن نصعد بتركيا إلى مصاف الدول العشر الكبرى في العالم»، واعدا بالحفاظ على ما سماها الديمقراطية والقانون وتعزيز الحريات خلال المرحلة المقبلة.
لكن القول عند أردوغان شيء والفعل شيء آخر، بل هو إن سلوكه في قمة التناقض مع ما يقوله، ومصداق ذلك سلوكه تجاه الأزمة والحرب في سورية، ففي الوقت الذي يدعي فيه تمسكه بوحدة سورية وسيادتها نراه يتدخل في شؤونها الداخلية متجاوزا تفاهمات آستنة مع الجانبين الروسي والإيراني ومنسقا مع الأميركيين الذين يدعمون خصومه الكرد، ويتوغل بجيشه ومرتزقته داخل الأراضي السورية متذرعا بالحرب على الارهاب وهو الذي كان على مدى سبع سنوات من أبرز الداعمين للإرهاب بوجوهه المتعددة التكفيرية أو تلك التي يطلق عليها تضليلاً وتعمية «معتدلة»، والجميع بات على دراية أن الحدود التركية كانت المعبر الرئيسي لمعظم التكفيريين والإرهابيين القادمين إلى سورية من أجل القتل والتخريب والتدمير والنهب والفوضى، ولعل أكثر الوثائق مصداقية في هذا المجال هو ما كشفته كبريات الصحف التركية التي تتعرض اليوم على يد نظام أردوغان لأوسع عملية قمع وتنكيل وإغلاق، بمعنى آخر لا مكان في تركيا لكل من ينتقد أردوغان أو يفضح جرائمه وسياساته.
الاعتقالات المستمرة في صفوف الجيش والشرطة التركيين والإقالات في مؤسسات التعليم والقضاء والإعلام وغيرها تشير إلى أن أردوغان يعيش ويطبق حالة طوارئ في البلاد وكأنها في حالة حرب مستمرة، أي أن الفوز بالانتخابات لم يبدد هواجسه ومخاوفه من الخصوم الافتراضيين، وهذا أمر غريب فعلا لأن من شأن الفوز أن يجعله متسامحا منفتحا على شعبه ومعارضيه بالحد الأدنى، وهذا ما لم يحدث حقيقة، فما الذي يخافه أردوغان..؟!
لا شك أن أردوغان يخشى من نقمة الأتراك وبقية شعوب المنطقة عليه نتيجة السياسة الحمقاء والعدوانية التي انتهجها، وبالتالي لن يعطيه فوزه بالانتخابات صك براءة مما ارتكب من فظاعات سواء في داخل تركيا وخارجها، ولا يعفيه من المسؤولية عنها، وإذا كانت الحالة الإخوانية في تركيا قد لعبت لمصلحته لأسباب عديدة كنتيجة الحالة المعقدة التي تعيشها المنطقة والعالم، فقد سبق لهذه الحالة المريضة أن سقطت في أماكن عديدة بفعل ارتكاباتها وعقدها المزمنة وتهورها باتجاه تسلم السلطة، ولعل مصر وتونس وأماكن أخرى أكبر مثالين على ذلك، وبالطبع أردوغان ليس استثناء ـ وهو يعلم ذلك ـ الأمر الذي يعطي تفسيراً لكل الهواجس التي تؤرق أردوغان تجاه كل معارضيه والمختلفين معه، ويقدم رؤية لما قد تؤول إليه الأمور في تركيا في قادم الأيام..ولعل أفضل نصيحة لأردوغان اليوم هي أن يأخذ العبرة من مصير أجداده الذين يتبجح بالانتماء لمنهجهم الانكشاري.