تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الخيال الفني

ملحق ثقافي
2018/7/10
ليست الأشياء التي ينتجها الفن – حتى وإن كانت واقعية – سوى تحريض إبداعي من خيال الإنسان. فالخيال لا يقف عند حد، ولا تحجزه القواعد والأيديولوجيات. والخيال كما يقول فرنسيس بيكون «هو إمكانية إبرام كل الأنواع غير الشرعية بين الأشياء». أي أن اللاشرعية هنا، انتقاد للسكون والسير على الوقاعد التي لا تؤدي إلى فن حقيقي.

الفنان هو خيال شبه خالص، وحتى إن الفنان يمكنه اختراع أمكنة ليست من الواقع أو محورة عن الواقع. يقول باختين: «لقد كان الخيال الفني لروسو مكانياً كذلك. فقد اكتشف للأدب مكاناً خاصاً ومهماً جداً اسمه الطبيعة». تلك الطبيعة التي يملأها روسو بصور الناس، أي يونسها. يسير روسو إلى تورين سيراً على الأقدام، ويتحدث عن ذلك: «لقد تخيلت نفسي في بيت من الطين بطاولات القرويين، والألعاب في الحقول، والسباحة، وكذلك النـزهات وصيد السمك، وتخيلت الثمار البديعة على الأشجار، والصبية تحت فيء الأشجار يعشقون..، حيث المتعة بالتسكع دون أن تعرف إلى أين تذهب». ومن ثم يقول إنه أهّل الطبيعة الخلابة بكائنات ملائمة ومتجانسة، ونقل الناس إليها، الناس الجديرين بسكنها. وفي خياله هذا يكوّن لنفسه مجتمعاً رائعاً، في عصر ذهبي.‏

إنه مكان خيالي مسحوب إلى المستقبل، إنه المكان الحلم، حيث يكون كل شيء قابلاً للعيش بشكل ممتع وإنساني، إنساني إلى النهاية.‏

يحتاج الخيال إلى خاصية ترافقه، وهي الذكاء، حيث يتم من خلال تطوير وجود الفنان وإغناء حاضره وانتقاله من ثم إلى مرحلة أعلى وأكثر تقدماً.‏

إن فناني القرون الماضية، من دافنتشي إلى بيكاسو، أثبتوا أن الخيال هو عماد أعمالهم جميعها. إن هذا الجنوح الفني إلى عالم ينشغل بالطبيعة، ويغرق فيها، ومن ثم يجعلها مادة أولية من مواد خياله، هي التي منحت البشرية هذا الفن العملاق، والمميز والمتقدم عن فن الآخرين في العصر نفسه.‏

خرجت التكعيبية والسوريالية والتجريدية من تفوق الخيال عند بيكاسو وأندريه بروتون وسلفادور دالي، وعدد آخر من الذين أطلقوا خيالهم للوصول إلى عوالم جديدة، غير تلك التي أرهقوا في العيش فيها. ورغم أن غوغان وفان كوخ ورامبرانت، كانوا عمالقة عصرهم، واستخدموا الخيال كثيراً، إلا أن المرحلة التي تلت، غاصت في عوالم الخيال بشكل لا سابق له، وعبر فنان كبيكاسو داخل الخيال لمسافات بعيدة.‏

الخيال ليس جنوناً، وليس المتخيل مجنوناً، إنه في منطقة بعيدة، تمتلك حافزاً لإنتاج المعرفة، ومشحونة بطاقة مذهلة للعمل والإنتاج الجديد. وليس رأي أفلاطون هنا حول الخداع الفني، سوى خطأ وقع فيه، واعتبره مستقلاً عن التجربة الحسية، إلى أن جاء أرسطو وأعاد الارتباط بين الخيال والتجربة الحسية، حيث يقول: «إن الخيال هو حركة معينة تنتج بواسطة الإحساس حينما يكون متحركاً». إذاً، هنا يصبح الخيال حركة وفاعلة أيضاً، ويتدخل في مسار المعرفة، ويسهم بشكل فعال في صناع الصور، مستنداً إلى ذخيرته الحسية. ومن ثم أرجع أرسطو معنى كلمة خيال إلى النور.‏

الخيال يبقى نشطاً على الدوام، وكما يقول أرسطو: «إن الخيال امتداد لنشاط الأحاسيس، حتى عند غياب الموضوع».‏

ميزة الخيال أنه يستمر في إنتاج الموضوع حتى ولو كان قد أزيل. إن المتخيل يحتفظ بصورة الشيء ويعيد خلقه من جديد وفق مخزونه الفكري والعاطفي. وهذه الميزة التي جعل منها ديكارت وكانط جوهراً في المنهج الفلسفي العقلاني، لأنها تمنح الذات حريتها وتعطي قيمة للتجربة الحسية. إلا أن ديكارت لم يترك الخيال من دون أن يعطي ملاحظاته، حيث قال إن الخيال لديه القدرة على بناء الأشكال وبلوغ الحقيقة الحسية، وذلك فقط حين يستند إلى قوة الفكر. وبذلك فإنه لا يرى أن الخيال مغاير للفكر، بل إنه وسيلة يحل الفكر في الجسم، ويستطيع الجسم بدوره أن يتسنم مكاناً في الفكر.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية