تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الطبيعة الريفيّة جماليات لا تشيخ

ملحق ثقافي
2018/7/10
د. محمود شاهين

كان الريف والمنظر الطبيعي الخلوي ولا يزالان من الموضوعات المطروقة بكثرة وشغف في الفنون التشكيليّة، ولاسيّما الرسم والتصوير المتعدد التقانات، وفي الحفر المطبوع، ثم انتقلت هذه الموضوعات لتأخذ حيّزاً بارزاً في أجناس الفنون البصريّة الجديدة كالتصوير الضوئي، والسينما، والتلفاز، والحاسوب، فقد قام الفنانون التشكيليون، خلال المراحل التاريخيّة المختلفة،

برصد جماليات الطبيعة وتجلياتها في الأوقات والفصول المتباينة، ومن ثم سجّلوها في أعمالهم الفنيّة على هيئة منظر طبيعي خلوي، أو منظر طبيعي مقرون بالإنسان، أو بالعمارة القديمة البسيطة المنبثقة من بيئتها، والرادة على مناخها، والمنسجمة مع خصائصها.‏

شكّلت الانطباعيّة أكبر التظاهرات الفنية التي احتفت واهتمت بموضوعات الطبيعة، حيث هجر أغلب الفنانين التشكيليين في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر محترفاتهم وتوجهوا إلى الحقول والغابات والريف، ليرسموا مباشرة في الطبيعة، وما بين معرضهم الأول عام 1874 ومعرضهم الثامن والأخير عام 1886 مُورس عليهم الرفض والإبعاد إلى أن قامت الحكومة في باريس عام 1937 بإدخال أعمالهم إلى متحف اللوفر.‏

قامت الانطباعيّة على رفض قانون نقل الأعمال الفنيّة بعضها عن البعض الآخر، والتأكيد على ضرورة خروج الفنان إلى الطبيعة، والتعبير بشكل مباشر وصادق عن الموضوعات التي تتفاعل مع الهواء والشمس، بعيداً عن التلفيق والزيف والرسم في حيّز مغلق، يقوم بفصل الفنان، عن نبض الحياة ودفئها وعذوبتها وشغبها المحبب.‏

في الهواء الطلق‏

وهكذا خرج الفنان التشكيلي إلى الهواء الطلق، ليعالج ظواهر الطبيعة، من خلال بصره وبصيرته وخياله ونظراته التحليليّة، التي وجدت أن عالم المرئيات لا يستقيم إلا بتأثير نور الشمس، ولفح الريح، وصوت الكائنات المُشكِلة للحياة، وكل هذه المؤثرات، تساهم في إيقاظ وجدان وأحاسيس الفنان، مُحضّرة كيانه للتفاعل التلقائي والصادق والعميق مع الموضوع الذي يقوم برسمه، ومن ثم إيداعه سطح اللوحة وهو بكامل حيويته وتألقه، وهذه التوجهات والأهداف، هي ما جعلت من الانطباعيّة وسيلة إغناء جمالي قادت إلى الكشف عن الفرح الإنساني العميق المتمثّل بالطبيعة وموجوداتها البسيطة.‏

انضم إلى الانطباعيّة عدد كبير من الفنانين نذكر منهم: إدوار مانيه، كلود مونيه، أوغست رونوار، كامي بيساور، جورج سوراه، ألفريد سيسلي، إدغار دوغا، هنري تولوز لوترك، بول سيزان، ماري كاسات، برت موريسو، آرمان غيومان... وغيرهم.‏

توجّه جديد‏

هذا التوجه الفني الجديد، طال أغلبية فناني العالم، ومن بينهم الفنان العربي عموماً، والتشكيلي السوري خصوصاَ، الذي تتفرد بلاده، بتنوّع جغرافي وطبيعي ومناخ قلّ نظيره في العالم. بعض الفنانين اتخذ الريف موضوعاً رئيساً في تجربته، وبعضهم الآخر تناوله كواحد من موضوعات أخرى ارتبطت بفن الرسم والتصوير والحفر المطبوع، منذ البداية.‏

هذه الحالة انسحبت على التشكيليين العرب الذين أسعفهم تنوّع الطبيعية والريف في بلادهم، بالخروج بأعمال فنية متميزة في معالجاتها ومضامينها، وما زاد من توجههم هذا، التعقيد الذي لحق بالمدينة الحديثة، وازدياد سطوة الآلة والتكنولوجيا على الحياة المعاصرة، ما أثّر في عفوية الإنسان، ومباشريّة تعامله مع الطبيعة، وبساطة وصدق هذا التعامل، لذلك شكّلت الطبيعة البكر، والريف الوادع الحنون، فضاءً لتنفس أرواحهم المحاصرة، ومأوى لقلوبهم المتعبة، وملاذاً لغسل الصدأ عن أحاسيسهم. لهذا كله نلاحظ بروز ظاهرة جديدة تدعى (بيوت نهاية الأسبوع) ظهرت في البداية لدى الدول الغربية المتطورة صناعياً وتكنولوجياً، ثم انتشرت لتشمل أغلبية دول العالم، ومن بينها بلادنا، ولاسيّما في المدن الكبيرة منها، حيث انتشرت بشكل لافت، المزارع والاستراحات الصغيرة، في ضواحيها وبساتينها، يقصدها أصحابها، في العطل من أجل توطيد علاقتهم المباشرة بالطبيعة والأرض، وخلق حالة من التوازن المادي والروحي في كياناتهم، تسعفهم في متابعتهم الحياة بشيء من الراحة والرغبة والأمل، وقد لفتنا لجوء الناس في ألمانيا، إبعاد كل ما له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة من بيوت نهاية الأسبوع التي يحرصون أن تكون ضمن الغابات، أو على سفوح الجبال والهضاب، أو فوق ضفاف البحيرات والأنهار، والاكتفاء بالحاجات البسيطة القادرة على مساعدتهم بتمثل بكورة الحياة الأولى واستعادة جمالها وبساطتها ونقائها.‏

الريف الطاغي‏

بمراجعة متفحصة للحركة الفنيّة التشكيليّة السوريّة المعاصرة التي بدأت مسيرتها أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، نجد أن موضوعات الطبيعة والريف، كانت هي الطاغية على أعمال رواد هذه الحركة التي انطلقت مع الفنان الرائد توفيق طارق (1875- 1940) الذي وضع عدداً من اللوحات حول الريف السوري نذكر منها لوحة (تدمر وراعي الماعز) ولوحة (على العين)، ثم جاء عبد الوهاب أبو السعود (1897- 1951) وميشيل كرشة (1900- 1973) فسعيد تحسين (1904- 1980) وصبحي شعيب (1909- 1974) وخالد معاذ (1909- 1989) ومحمود جلال (1911- 1975) وأنور علي الأرناؤوط، ورشاد قصيباتي، ورشاد مصطفى (وجميعهم من مواليد عام 1911)، فعبد العزيز النشواتي، وزهير الصبان، وسهيل الأحدب، ورولان خوري، وإسماعيل حسني... وغيرهم الكثير.. أعقبهم الجيل الثاني المتمثل بنصير شورى، محمود حمّاد، ناظم الجعفري، فاتح المدرّس، ممدوح قشلان، لؤي كيالي، أدهم ونعيم إسماعيل، والياس زيات، وعبد المنان شما... وهكذا تتالت الأجيال في الفن التشكيلي السوري المعاصر التي لم تغب عن نتاجها موضوعات الريف السوري، لكنها برزت وطغت على نتاج البعض منهم كالفنان نصير شورى الذي بدأ مسيرته الفنية وأنهاها (1920- 1992) انطباعياً مسحوراً ببقع اللون الوسيمة، يزغرد بين جنباتها الضوء، ويستحم بين ثناياها الجمال، فقد غمرت لوحته غنائية رومانسيّة قادرة على مغازلة بصر وأحاسيس المتلقي، تجسدت بموضوعات لصيقة بالبيئة الطبيعيّة المحيطة بدمشق، هذه البيئة التي ظلت عشقه الأبرز حتى في مرحلة انعطافته التجريديّة.‏

جماليات الريف‏

ومن التجارب التشكيليّة السوريّة البارزة التي جذبتها جماليات الريف السوري تجربة الفنان ماريو موصلي (ولد في بيونس آيرس 1946 وتوفي في دمشق منذ عدة أعوام) التي رصد في جانب كبير منها طبيعة منطقة القلمون التي عالجها من خلال مساحات لونية مشبعة بالانفعال والشاعريّة، سكب فيها إحساساً عالياً وعميقاً، شديد التفاعل مع الطبيعة، والحب لها، حتى في لحظات غضبها وقسوتها.‏

وكرّس الفنان عبد السلام عبدالله (مواليد الرميلان 1961) كامل تجربته الفنيّة، لموضوعات الأزاهير والطبيعة والطبيعة الصامتة التي صاغها بواقعية تسجيليّة تزيينيّة، بهية الألوان، لها وقع مؤثر في عين وإحساس المتلقي، لنظافة ألوانها، وإتقان رسمها، وجمال موضوعاتها. كذلك احتفت تجربة الفنان أحمد إبراهيم (مواليد الغسانيّة في محافظة القنيطرة 1950) بالطبيعة الجولانيّة الساحرة التي استحضرها في معمار تشكيلي واقعي وخيالي في آن معاً، جنح فيه أحياناً نحو الإبهار التزييني، قوامه لون دسم وثري ومعبّر، اختزل موهبته وخبرته..‏

وفي انعطافة لافتة، كرّس الفنان رضا حسحس (ولد في حمص 1939 وتوفي في مدينة مانهايم الألمانيّة 2016) كامل تجربته الفنيّة للمنظر الطبيعي الذي أتقن جيداً رصده وانتخابه ومعالجته، عبر صيغة واقعيّة شديدة الاختزال، مدروسة الإيحاء، تعانقت فيها خبرته الفنيّة الطويلة مع عشقه لموضوع الطبيعة الخلويّة الذي لا يأخذه كما هو في الواقع، إنما يمرره على مختبر أحاسيسه، ليُنقيه من الشوائب والزوائد والمشوشات، ما حوّل لوحته إلى قصيدة مكتوبة بالخطوط والألوان المختزلة والمستوعبة لهيكليّة العناصر الواقعيّة، والمشهد لديه مأخوذ بعد عملية تأمل عميقة لعناصره، ومدخول عليه، من الزاوية المناسبة، ومقطوع بشكل أثرى وعمّق الإيحاء فيه، رغم قلة وبساطة العناصر المُشكلة له (أرص، أفق، سماء) وهذه الخصائص مجتمعة، شكلت من لوحته فضاءً رحباً مفعماً بالجمال الناهض من الواقع ومطرزاً بالخيال الذي لا يستقيم العمل الفني من دونه.‏

وغلبت على تجربة الفنان علي خليل (مواليد جسر الشغور 1950) الموضوعات المأخوذة من بيئته الريفيّة الوادعة المتناثرة فوق ضفاف نهر العاصي، والمعالجة بنوع من الكلاسيكيّة المحدثة المشوبة بروح الانطباعيّة.‏

من الصعوبة الإحاطة بالنتاج الفني التشكيلي السوري الذي اتخذ من الموضوعات الريفيّة مادة له، ولاسيّما من قبل الفنانين الذين جاؤوا من شعاب هذا الريف، نذكر منهم الفنان فاتح المدرس الذي لم تغب عن لوحاته روح الجغرافيا السوريّة المتفردة بجملة من الخصائص، وأحمد نشأت الزعبي ابن مدينة حماة الذي شغف كثيراً بريفها، وخليل عكاري ابن دمشق الذي أخذته جماليات الطبيعة، ولاسيّما أشجارها، والحماصنة: عبد القادر عزوز، ووليد الشامي، وعون الدروبي، وفاخر أتاسي، وغسان نعنع... وغيرهم من الفنانين الذين رصدوا جماليات الطبيعة، في القرى المتناثرة فوق ضفاف العاصي، كذلك فعل فنانو الجزيرة السوريّة كعمر حمدي، وزهير حسب، وبشير الأنصاري... وغيرهم، حيث كانت الأرض وإنسانها الطيب البسيط الشغوف بناي القصب، أبرز موضوعات أعمالهم، وأصدقها تعبيراً عن دواخلهم وأحاسيسهم.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية