ووضعَ أبو بكر السّراج كتاباً ضخماً أسماه (مصارع العشّاق) روى فيهِ ما لا يحصى من الحكايات، التي تدور حول موت المحبين بسبب رقّة الطبع، وعظم الإشفاق والوجدِ، وخص الإمام ابن الجوزي أخبار من قتلوا بسبب العشقِ، ومن قتلوا معشوقاتهم بفصول عدّة من كتابهِ (ذمّ الهوى)، والأمر ليس خاصاً بالعربِ وحدهم فقد كتب الأديب الألماني إميل لودفيغ في كتابه (الحياة والحب): (ثبتَ أن الحُبّ، في كل دور وتحتَ كل سماء ولدى كل جيل حادثٌ جثمانيٌّ، وقد يكون الحب غيرَ ذي نتائج روحيّةٍ، والحبُ قد حدثَ على هذا الوجه ألوف المرّات، ولكن الحب لم يحدث قط بلا نتائج جُثمانيّة)، ويكتبُ صادق جلال العظم: (يتميّز الحب الذي ترك أثراً مهماً في تاريخ الإنسان وأدبه وفكره بكونهِ شقيّاً تعيساً بائساً، إنهُ الحب الذي لا يعرف النهايات السعيدة لأنه دوماً حليف المآسي وقرين الموت والدمار والخراب، وكأنهُ قوّة تتسلط على الإنسان تسلط القدر المكتوب، فتدفعه إلى مصيرٍ مظلم محتوم لا حياد عنه البتّة. كأن مشاهير العشاق يختارون دوماً تقديم حبهم على جميع الاعتبارات الأخرى المتصلة بالحياة، وباختيارهم حبهم كانوا يختارون أيضاً طريق البلاء والشقاء والموت، ولعلّ تلك الأمنيات بالموت التي وصلتنا في أشعار الشعراء العُشّاق -ولا سيما العذريين منهم- كانت المقدمات الطبيعية لبلوغهم تلك النهاية الفاجعة، مع أن علينا في هذا المقام ألا ننسى أن عدداً غير قليلٍ من تلك الأمنيات يأتي بمثابة حلولٍ يستنبطها العقلُ لحالة التوتر، التي بلغتها نفس الشاعر العاشق، ومهما (تكن الحلول خادعةً فهي تؤمّن للعاشق -على الرغم من ملامحها التي غالباً ما تكون مأساوية - هدوءاً عابراً، مناورة استيهامية تسعى لإيجاد مخارج ممكنة للأزمة العشقيّة). يقول جميل بثينة متمنياً الموت:
يا ليتني ألقى المنـية بغتةً إن كان يومُ لقائكمْ لم يُقدرِ
أو أستطيعُ تجلداً عن ذكركم فأفيقُ بعد صبابتي وتفكرّي
لو قد تجنُّ كما أجنُّ من الهوى لعذرتِ أو لظلمتِ إنْ لم تعذرِ
يهواكِ ما عشتُ الفؤاد فإن أمتْ يتبع صداي صداكِ بين الأقبرِ
أما مجنون ليلى فكثيراً ما يتمنى الموت، ومن ذلك قوله:
ألا ليتني قدْ متُّ شوقاً ووحشةً بفقدكِ ليلى والفؤاد عميدُ
وقد يتمنى الموت والاجتماع بالمحبوبة في لحدٍ واحد، إنْ عَزّ اللقاء في الحياة:
ألا ليتَ لحدكِ كانَ لحدي إذا ضمت جنائزنا اللحودُ
ومن البدهي ألا يطلب الشاعرُ العاشقُ الحياة أو طولَ العيش، إذا ما أنشبَ الموت أظفارهُ في المحبوبة، لأن الحياة عندها ستكون بلا طعم ولا لون؛ وسيرجو الشاعر لنفسه الموتَ كي يلقى من يحب ولو في القبر، ما دامت قد عزّت الحياة معاً:
يقول جميل بن معمر العذري:
ألا ليتَنا نحيا جميعاً فإن نمتْ يوافي لدى الموت ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ إذا قيل قد سويّ عليها صفيحها
أظلّ نهاري لا أراها وتلتقي مع الليل روحي في المنام وروحها
وسيطلقُ عمر بن أبي ربيعة أمنية غريبة جداً أثارت يوم نظمت ردود فعلٍ متباينة، منها أن الخليفة عمر بن عبد العزيز، رفض أن يقابله وسبّه لنظمه تلك الأبيات التي يقول فيها:
ألا ليتني في يوم تدنو منيّتي شممتُ الذي ما بينَ عينيكِ والفمِ
وليتَ طهوري كان ريقكِ كُلّهُ وليت حنوطي من مشاشكِ والدمِ
ويا ليتَ سلمى في القبور ضجيعتي هنالكَ أو في جنةٍ أو جهنمِ
وقد يتمنى الشاعرُ- وهذا من أغرب ما يمكن أن نقرأهُ في الشعر العربي- موت المحبوبة؛ ولنا أن نتخيلّ كم من الألم والعذاب والحرمان يكمن خلفَ مثل هذه الأمنية، يقول نجبة بن جنادة العذري:
من حُبّها أتمنّى أن يلاقيني من نحوِ بلدتها ناعٍ فينعاها
كيما أقولُ فراقٌ لا لقاءَ لهُ وتضمرُ النفسُ يأساً ثم تسلاها
ولو تموتُ لراعتني وقلت لها يا بؤس للموت ليت الدهر أبقاها