تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


النظام اللغوي خصوصية التواصل الإنساني

ملحق ثقافي
2018/7/3
ترجمة: حاتم حميد محسن

يعرّف اللغويون اللغة كأي نظام يسمح بحرية التعبير عن الأفكار على شكل إشارات، وإعادة التفسير المكمل لهذه الإشارات مرة أخرى إلى أفكار. هذا يعطي لغة الإنسان خصوصية متميزة عن كل أشكال أنظمة الاتصال الحيوانية الأخرى التي تعبر فقط عن عدد محدود من الإشارات.

‏‏

فمثلاً القرد الأفريقي، يُطلق مختلف النداءات طبقاً للأخطار التي يواجهها. القرود الأخرى تدرك وتستجيب تبعاً لذلك – تهرب نحو غطاء من الأشجار عندما يشير النداء إلى خطر نسر مثلاً، وتتسلق الأشجار عندما يشير النداء إلى وجود نمر. هذه الخصائص تُعرف بالمرجعية الوظيفية، وهي سمة هامة للّغة. وعلى عكس لغة الإنسان، نظام القرود هو فطري وغير مُتعلّم وهو ما يجعل أنظمتها غير مرنة، فهي لا تستطيع أن تخلق نداء تحذيرياً جديداً يشير إلى وجود إنسان مع بندقية مثلاً.‏‏

كذلك لا تستطيع القرود وبشكل مقصود نقل معلومات جديدة: هي تستمر بإطلاق نداءات التحذير من نمر حتى عندما ينتقل كل أفراد مجموعتها إلى مكان آمن في الأشجار. وهكذا، رغم أن نظام اتصالات القرود يشترك بخاصية مهمة مع لغة الإنسان، فهو ما يزال تنقصه العديد من السمات الهامة الأخرى.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

بناء خطوط الزمن‏‏

ونفس الشيء بالنسبة إلى حركات الرقص الروتينية المعقدة للنحل التي تبدي بعض التماثل مع لغة الإنسان. يستطيع النحل عبر التحرك بطرق معينة ربط مواقع الزهور البعيدة والماء ومواقع خلايا إضافية بخلاياها – كنظام يبدو واضحاً كمرجع وظيفي. والأكثر أهمية أن النحل ينقل معلومات أيضاً عن أشياء ليست حاضرة. يطلق اللغويون على هذه الخصائص «الإزاحة» displacement، وهي ليست عادية أبداً في الاتصالات الحيوانية – حتى القرود لا تستطيع القيام بذلك. مع ذلك، بما أن النحل لا يستطيع الإبلاغ التام لما يعرف، كلون الزهرة مثلاً، فإن نظامها لا يمكن اعتباره لغة.‏‏

إن النظر إلى سمات مشتركة يساعد البيولوجيين في معرفة الكيفية التي تطورت بها هذه السمات من حيث الأصل. مختلف الحيوانات ربما تعرض نفس الخصائص لأن الجد المشترك امتلك نفس السمات التي استمرت لاحقاً طوال مراحل التطور. هذه السمات تسمى التماثل أو (homologies). ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الشعر في الثدييات أو الريش في الطيور. وقد نجد في المقابل نفس السمات قد تتطور بشكل مستقل دون أن تكون حاضرة في الجد المشترك، وهي العملية التي تسمى بالتطور المتقارب أو المتشابه. نشوء الأجنحة في كل من الطيور والخفافيش هو مثال على هذا النوع من التطور، تماماً كما كان يُنظر إلى الإزاحة في كل من رقصة النحل ولغة الإنسان.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

هذه التشابهات تسمح لنا في بناء خط زمني نشأت منه مختلف السمات في الأصل. في الواقع أن كون الأسماك والثدييات والطيور والزواحف والبرمائيات جميعها تمتلك هياكل عظمية، يشير إلى أن العظام نشأت قبل الرئات التي تفتقدها معظم الأسماك بينما تشترك فيها الجماعات الأخرى. مقارنة الكائنات ذات السمات المتقاربة، في المقابل تساعد في تحديد ضغوطات الاختيار المشتركة التي دفعت مختلف الكائنات الحية كي تطور السمات بشكل مستقل. هذا «الاتجاه المقارن» كان الوسيلة لفهم المصدر الذي نشأت منه مقدرتنا في تعلم وفهم وإنتاج كلمات جديدة. إن السمات المتميزة هذه تسمح بالتعبير الحر عن أفكار جديدة، وبذلك هي أساسية للغة الإنسان ولكنها ليست دائماً موجودة في الأنواع الأخرى للاتصالات الحيوانية. ما هي إذاً المخلوقات الأخرى التي تشترك بهذه القدرات ولماذا؟‏‏

ثلاثة أنواع من التطور‏‏

تتطور اللغة عبر الزمن بثلاثة أشكال مختلفة كل واحد منها يسمى أحياناً بـ «تطور اللغة». إن أسرع عملية هي دورة حياة الكائن الحي (ontogeny) التي يتطور فيها الطفل الأقل لغة ليصبح متحدثاً بلغة فصيحة. ثم هناك glossogeny)) أو التطور التاريخي للغات. هذا المرشد لتطور اللغة يركز على (phylogeny) أو التغيرات البيولوجية للإنسان التي حدثت خلال الستة ملايين سنة الأخيرة من حياتنا والتي تطور من خلالها جنسنا الأول (Homo Sapiens ( من أصل أقل لغة.‏‏

إن المقدرة على تعلم وفهم إشارات جديدة هي الأكثر شيوعاً. الكلاب التقليدية تعرف عدداً محدوداً من الكلمات، وبعض الكلاب غير العادية مثل ريكو، يمكنها تذكّر مئات الأسماء لمختلف الأشياء. أن القرود من فصيلة الكانزي والتي عُرّضت في فترة مبكرة من حياتها إلى المزيد من الكلام البشري، يمكنها أيضاً فهم مئات الكلمات المنطوقة، وهي تدرك حتى الاختلافات في ترتيب الكلمات. هذا يشير إلى أن تعلم إدراك إشارات جديدة كان واسع الانتشار ومشتركاً بين معظم الثدييات الأخرى. ولكن لا كانزي ولا ريكو تعلما إنتاج حتى كلمة منطوقة واحدة، لأنهما تنقصهما القدرة على التعلم الصوتي المعقد. العديد من الكائنات الأخرى لها هذه القابلية. ربما كل شخص رأى ببغاء ناطقاً، ولكن هناك الكثير من الأمثلة غير العادية. هوفر، عجل البحر اليتيم الذي عرضه أحد صيادي الأسماك، تعلّم كيف ينتج جمل إنجليزية كاملة بلهجة مانية.‏‏

والعلماء وجدوا تعلماً صوتياً معقداً في عدد كبير من الكائنات المختلفة الأخرى بما في ذلك الحيتان والفيلة والخفافيش. إن حقيقة كون معظم هذه الحيوانات المتقاربة في النسب ينقصها التعلم الصوتي يشير إلى أن هذه الخاصية هي مثال على التطور المتقارب. في الواقع إن معظم الحيوانات التي تتعلم التحدث لا تدرك معنى ما تقول. (هوفر) في اغلب الحالات كان يوجّه جمله إلى أنثى عجل البحر أثناء فترة الزواج، مثلاً، وهو ما يشير إلى أن الإنتاج الصوتي وتمييز المعاني هما خاصيتان متميزتان تستعملان آلية عصبية مختلفة. فقط من خلال التدريب المعين يمكن للحيوانات أن تتعلم إنتاج وتفسير متناسب للكلمات. أليكس، الببغاء الأفريقي الرمادي يعطي مثالاً عن الطير الذي استعمل كلمات للأشكال والألوان والأعداد بشكل صحيح.‏‏

أما بالنسبة إلى خلق خط زمني لتطور الإنسان، فإن الدليل يشير إلى أن قابليتنا على تمييز الأصوات ربما نشأت من الجد المشترك للثدييات، بينما مقدرتنا لإنتاج أصوات معقدة نشأت حديثاً في ما قبل التاريخ. والمهم أكثر أن دراسة مختلف أمثلة التعلم الصوتي المتقارب كشفت ما كان ضرورياً لمظهر مهم للغة الإنسان: الكلام.‏‏

الكلام هو فقط مظهر واحد للغة الإنسان، وليس ضرورياً بتلك الدرجة من الصرامة، طالما كل من لغة الإشارة ولغة الكتابة يكفيان تماماً للتعبير الحر للأفكار. ونظراً لكون الكلام الوسيط العادي للّغة في كل الثقافات، فمن البديهي الافتراض أن نشوءه يجب أن يكون مثّل خطوة كبيرة في تطور اللغة.‏‏

وبما أنه لا توجد قرود إلى جانبنا يمكنها تعلم التحدث، فإن بعض التغيرات لا بد أن تكون حدثت بعد أن انفصلنا عن الشمبانزي قبل ستة أو سبعة ملايين سنة. إن طبيعة التغيير لم تكن واضحة نوعاً ما. يرى داروين أن هناك تفسيرين محتملين: إما بفعل التغيرات التي حدثت في جهازنا الصوتي، أو أن هناك اختلافاً جوهرياً في الدماغ. في كلا الحالتين، تمكّن البيولوجيون من الحصول على أفكار أساسية عبر اختبار الحيوانات الأخرى.‏‏

دعنا نبدأ بعلم التشريح. الإنسان لديه مسلك صوتي غير عادي: الحنجرة أو (صندوق الصوت) تستقر في أدنى البلعوم. في معظم الثدييات الأخرى بما في ذلك الشمبانزي، تقع الحنجرة في أعلى نقطة، وعادة تدخل في ممر الأنف، موجدةً ممراً أنفياً مغلقاً. في الحقيقة، بدأ الإنسان حياته بهذه الطريقة: الطفل الحديث الولادة يمكنه التنفس من خلال أنفه أثناء ابتلاعه الحليب بفمه. ولكن مع نمو الطفل تهبط الحنجرة، وعند سن 3 أو 4 لم يعد هذا العمل ممكناً.‏‏

المسالك الصوتية المُعدّلة لدى الإنسان تسمح بالحركة الحرة للّسان وهي حركة حاسمة في جعل معظم الأصوات المتميزة مسموعة بلغة إنسانية. ومنذ وقت طويل اعتبرت الحنجرة الهابطة خاصية متميزة لجنسنا، والأساس لحيازتنا الكلام. الباحثون حاولوا أيضاً وضع تاريخ لظهور اللغة عبر دراسة موقع الحنجرة في الحفريات القديمة.‏‏

الدليل القادم من مصدرين مختلفين لبيانات مقارنة يثير شكوكاً حول هذه الفرضية. الأول كان اكتشاف الأنواع الحيوانية ذات الحناجر المستقرة بشكل دائم كحناجرنا. نحن الآن نعرف بأن النمور والكولاز والغزال المنغولي جميعها تمتلك حنجرة مستقرة بما يجعلها سمة متقاربة. وبما أن لا أحد من هذه الأنواع ينتج أي شيء كالكلام، فإن التغيرات في التشريح لن تكون كافية لنشوء الكلام.‏‏

الخط الثاني من الدليل هو أكثر قوة. ملاحظات أشعة الإكس راي لمتحجرات الثدييات تبين أن الكلاب والقرود والماعز والخنازير جميعها تخفض الحنجرة أثناء التلفظ. هذه المقدرة على تكوين المسلك الصوتي تبدو واسعة الانتشار وربما خاصية متماثلة للثدييات. مع وجود الحنجرة المتراجعة، الكلب أو المونكي لديهما كل الحرية بالحركة المطلوبة لإنتاج مختلف الصوتيات. وبدلاً من ذلك فإن التغيير الأساسي يجب أن يكون حدثاً في الدماغ.‏‏

ارتباطات مباشرة‏‏

إن دماغ الإنسان معقد إلى درجة كبيرة، ويختلف بعدة طرق عن أدمغة الحيوانات الأخرى. يتنبأ البعض بحدوث مختلف التغيرات العصبية التي تكمن وراءها مختلف عناصر اللغة مثل بناء الجمل والسيماتك والكلام. وهناك تغيرات أخرى يُفترض أن تتحكم بقابليات معينة مثل استخدام أداة محسنة أو حدة الذكاء. إن من يقرر التغيرات العصبية المحددة المطابقة لقابليات معينة هي مسألة بالغة الصعوبة، وفي عدة حالات لا نمتلك تخمينات جيدة حول ماهية التغييرات التي كانت مطلوبة.‏‏

البيولوجيون كانوا محظوظين عند دراسة الآلية العصبية للكلام. الخلايا العصبية التي تتحكم بالعضلات المشاركة بالتلفظ – في الشفاه، اللسان والحنجرة – تقع في الدماغ، وبعد عقود من البحث المرهق نعرف الآن أن الإنسان لديه ارتباط عصبي مباشر بين لحاء القشرة وهذه الأعصاب الدماغية التي لم تكن موجودة لدى الحيوان الأول غير الإنساني. هل يمكن لهذه الارتباطات العصبية المباشرة أن توضح مقدرتنا الأكيدة في التنسيق والإشراف على الحركات الضرورية للكلام؟ توضيح ذلك ربما يبدو ممكناً. ولحسن الحظ، نحن نستطيع اختبار الفرضية بمساعدة الأنواع الحيوانية الأخرى التي تُبدي تعلماً صوتياً معقداً.‏‏

فإذا كانت الارتباطات العصبية المباشرة ضرورية للتعلم الصوتي، سنتنبأ بوجوب أن تظهر في الحيوانات الأخرى ذات التعلم الصوتي. هذا التنبؤ أثبت صحته في الطيور: الببغاوات أو الطيور المغردة تمتلك مثل هذا الارتباط بينما الدجاج أو الحمام الذي هو غير متعلم صوتياً لا يمتلك ذلك. العديد من الحيوانات المتعلمة صوتياً بما في ذلك الحيتان وفقمة البحر والفيلة والخفافيش، لا نعرف عن ذلك الارتباط شيئاً لأن تشريحها العصبي لم يتم التحقق الكامل منه، كي يوفر مصادر جديدة لاختبار فرضية الارتباطات المباشرة.‏‏

إن المقدرة على إنتاج الأصوات الصحيحة للكلام هي إحدى الأشياء، ولكن التحكم الصوتي المعقد في الإنسان يعتمد أيضاً على قابليتنا للتحكم بمختلف الألفاظ في تسلسل صحيح ومعقد عادة. إن اكتشاف الجين FOXP2 أعطى مؤخراً أفكاراً حول أصل هذه المقدرة (مجلة العلماء الجدد، عدد آب 16 2008 صفحة 38). الإنسان الحديث يشترك بهذا الجين الغريب والمختلف عن ذلك لدى الكائن الأول، وإن اضطراب هذا الجين لدى الناس يخلق صعوبات شديدة في الكلام. ولكن ما الذي يقوم به؟ مختلف الدراسات وجدت أن الجين يبدو حاسماً لتكوين الذاكرة في العقد القاعدية والمخيخ المشاركة في تنسيق نماذج الحركات الضرورية لنظامنا الصوتي المعقد. ومؤخراً، كشفت متحجرات الـ DNA الملتقطة من إنسان النياندرتال بأنه اشترك في النموذج الحديث المختلف، وهو ما يشير إلى أن ذلك الإنسان كان يمتلك سلفاً كلاماً معقداً.‏‏

إن الكلام هو فقط عنصر واحد من اللغة والفكر، وأسئلة مشابهة يجب أن تُثار حول بناء الجملة والسيماتك قبل أن نتمكن من إدراك تطور اللغة بشكلها الأعم.‏‏

الإنسان القديم واللغة القديمة‏‏

عند النظر إلى اللغة كمجموعة من عدة عناصر متميزة، يصبح من الواضح أن مختلف السمات اللغوية ظهرت في فترات مختلفة من تطور الإنسان، وربما لأسباب مختلفة. ولكن رغم أن المنظرين يتفقون على أن الإنسان القديم مر عبر مراحل متعددة وصولاً إلى اللغة الحديثة إلا أن هناك اختلافات رئيسية في الأفكار المتعلقة بالنظام الذي ظهرت فيه مختلف العناصر. إن النظام الذي يضم بعض وليس كل عناصر اللغة يطلق عليه بـ protolanguage وهو المصطلح الذي أطلقه الأنثربولوجي جوردن هيوز عام 1973. ثلاث من تلك اللغات القديمة المحتملة هي المسيطرة في نظريات تطور اللغة.‏‏

إن أقدم أنواع الكتابة، التي تعطي دليلاً واضحاً عن اللغة الحديثة تعود فقط إلى 6000 سنة، ولكن اللغة في شكلها الحديث نشأت قبل ذلك بوقت طويل. وبما أن الإنسان الحديث جاء من السكان الأفارقة الأسلاف، وإن أطفال أي ثقافة حالية يمكنهم تعلّم أي لغة، فإن اللغة يجب أن تكون سبقت هجرتنا من أفريقيا قبل 50 ألف سنة. ولكن هل نستطيع وضع تاريخ لأولى اللغات البدائية؟‏‏

وسواء كانت اللغة الأولى إيمائية أو موسيقية أو معجمية، فإنها من الواضح تجاوزت اتصالات القرود الحديثة في البرية. ومع كل الفوائد والتحديات الإدراكية،التي يجلبها هذا، نحن نتوقع أن يختلف ذلك الإنسان القديم وبشكل كبير عن أسلافه سواء في التشريح أو في الثقافة. وباستعمال هذا المنطق فإن الإنسان القديم الذي نشأ قبل 2 مليون سنة يبدو هو المرشح الأكثر حظاً. الإنسان القديم كان أكبر من أسلافه، وامتلك دماغاً بحجم 900 إلى 1100 سنتمتر مكعب. هو يقترب من حجم دماغنا البالغ كمعدل 1350 سنتمتر مكعب. وهذا يشير إلى إمكانية الذكاء المرن والثقافة. أدواتهم الحجرية كانت أكثر تعقيداً من الإنسان الاسترالي القديم، مما يعني أنهم امتلكوا اتصالات متقدمة رغم أن وسائلهم كانت أقل تعقيداً مما لدى إنسان نياندرتال أو الإنسان الحديث.‏‏

إن أدوات الإنسان القديم يبدو أنها نوع من الفأس اليدوي ذي الأغراض المتعددة، استمر لما يقارب المليون سنة. هذا يشير إلى أن ذلك الإنسان لم تكن لديه اللغة التامة التي تعجّل وتيرة الثقافة والتغير التكنولوجي. ولهذا هو ربما امتلك بعض وليس كل القدرات اللغوية للإنسان الحديث – أي أنه امتلك بمعنى أخر لغة منقرضة protolanguage.‏‏

البدايات الموسيقية‏‏

هذا النموذج البارز للغة القديمة protolanguage عرضه داروين عام 1871 وركز على أصل التعلم الصوتي، وهي القابلية التي افترضت (دون أن تُوضّح) بواسطة اللغة القديمة المرتكزة على الكلمة أو الجملة. لقد أدرك داروين أن لدى معظم حيوانات التعلم الصوتي، لم يُستعمل التعلم الصوتي المعقد لإيصال معلومات مفصلة، وإنما يعطي فقط عروضاً للبراعة الفنية للمغني. ومع أن أغاني بعض الطيور أو الحيتان تنافس كلام الإنسان في التعقيد الصوتي، إلا أنها تنقل فقط رسالة مبسطة جداً «أنا أحد البالغين من جنسك الحيواني وأريد الزواج».‏‏

بناء على هذا القياس، اقترح داروين أن تعلم الإنسان الصوتي نشأ في سياق الاختيار الجنسي والمناطقي وخيار الزواج، هو في البداية كان أكثر شبهاً بالأغنية منه إلى الكلام. فقط في وقت لاحق، وفق هذا النموذج، بدأت الأصوات الفردية ومقاطع العروض الصوتية تحمل معاني، ربما بأسلوب كلي holistic manner. ومنذ زمن داروين، أخذ العديد من المفكرين الآخرين بفرضية اللغة القديمة الموسيقية، وهي تحظى بدعم متزايد اليوم. إحدى مزايا هذه الفرضية هي أنها أيضاً تعطي تفسيراً للموسيقى: خاصية عالمية أخرى لجنسنا. بموجب هذا النموذج، تصبح الموسيقى تذكيراً حياً بالمرحلة الأولى لتطور الإنسان التي سبقت اللغة الحقيقية.‏‏

الإشارات البليغة‏‏

وهناك نموذج شهير آخر للّغات القديمة يرى أن اللغة كانت نُقلت في الأصل عبر الإشارات بدلاً من الكلام. أحد الأدلة جاء من مراقبة القرود التي ينقصها التعلم الصوتي والكلام إلا أنها تستعمل الإيماءات الدالة بطريقة بلاغية مرنة وهادفة. ومع أن محاولات تعليم القرود لغة منطوقة فشلت كلياً، إلا أن جهود تعليم القرود على الاتصال عبر الإشارات الدالة كان أكثر نجاحاً. وبالرغم من عدم وجود قرد تمكّن بجدارة من لغة تامة الإشارة، إلا أن القرود يمكنها تعلّم واستعمال مئات من الإشارات الفردية الدالة بكفاءة. النموذج الإرشادي المرئي يكفي تماماً للغة الإنسان الكاملة باعتباره تفسيراً مقنعاً للغة الإشارة. هذه الخاصية جعلت من اللغة الإيمائية القديمة هي النظرية الأكثر مقبولية اليوم.‏‏

إحدى الصور البارزة للّغة الإيمائية القديمة عرضها عالم الأعصاب ميخائيل أربب Michael Arbib من جامعة جنوب كاليفورنيا بلوس أنجلس، وهي ترى أن الإشارات لم تشر بالأصل لأشياء فردية أو أفعال وإنما إلى كل الأفكار والأحداث. هذا مثال لما يسمى باللغة القديمة الكلية (holistic protolanguage) التي بموجبها توضع جميع الإشارات المعقدة بشكل مباشر على كامل المفاهيم المعقدة بدلاً من أن تُجزّأ إلى كلمات انفرادية. وهذا بالضبط ما حصل للأطفال في اكتسابهم المبكر للّغة حين فهموا واستعملوا الإيماءات والتعبيرات المبكرة. في مثل هذا النموذج الكلي، تأتي في البدء كل الجمل ولم تُجزّأ إلى كلمات إلا أثناء المرحلة التحليلية اللاحقة من التطور البيولوجي والثقافي. هذا الاتجاه هو في تضاد مع النموذج التركيبي للغات القديمة الذي يؤكد على الكلمات الفردية منذ البداية.‏‏

إن النماذج الإيمائية تواجه صعوبة تفسير السبب الذي دفع جنسنا للتحول نحو استخدام الكلام بصورته الدقيقة. ربما يعود ذلك للحاجة للاتصال أثناء الظلام أو بسبب انشغال الأيدي بالأدوات. ولكن الكلام له عيوبه أيضاً. التحدث بصوت مرتفع لا يمكّننا من الاتصال السليم عند امتلاء الفم، أو عند وجود خطر داهم، أو في البيئة الصاخبة مثل مساقط المياه أو العواصف. إن الضغوط التي ربما قادت الإنسان للوثوق الكلي بالكلام وحده تبقى غامضة.‏‏

الكلمات الأولى‏‏

يرى أحد النماذج الشديدة الحدس أن الإنسان القديم استخدم الكلمات ولكنه لم يرتبها على شكل جمل تركيبية. هذا النموذج من اللغة القديمة المعجمية lexical protolanguage يماثل تطور اللغة عند الأطفال حين يبدأون الكلام بمفردة واحدة، ثم بمفردتين في مرحلة لاحقة حتى البدء بتكوين جمل مركبة أكثر تعقيداً.‏‏

يُعتبر اللغوي ديريك بيكرتون Derek Bickerton من جامعة هاواي من أهم المناصرين لهذا النموذج. هو اقترح مرة أن إضافة البناء اللغوي syntax بكل تعقيداته ربما حدث بشكل مفاجئ جداً نتيجة الطفرة الرئيسية وتأثيرها الكبير في أسلاك الدماغ، وهو ما أدخل بسرعة جنسنا إلى اللغة التامة. ولكن اللغوي راي جاكندوف Ray Jackendoff من جامعة Tufts في ولاية ميدفورد يعتقد بوجود مسار أدق وأكثر تدرجاً للبناء اللغوي الحديث، مبتدئاً بنظام الكلمة البسيط صعوداً إلى مسائل دقيقة من الإعراب بما يجعل من الصعب على البالغين تعلّم اللغات الحديثة.‏‏

وعلى الرغم من مختلف الحالات الأخرى لعدم الاتفاق، فإن جميع المناصرين للّغة المعجمية القديمة يقبلون بفكرة أن اللغة بدأت بكلمات ملفوظة تشير إلى أشياء أو أحداث. والعديد يتفقون أيضاً أن الهدف من اللغة القديمة كان إيصال الأفكار. ورغم أن كل واحد من هذه الافتراضات يبدو بديهيا، لكنها واجهت تحديا من جانب النماذج الأخرى لتطور اللغة.‏‏

المستقبل‏‏

إن نماذج اللغة القديمة للإنسان تحتوي جميعها على نقاط قوة وضعف. المنظرون المعاصرون يمزجون ويؤلفون بين الاحتمالات، والحقيقة ربما تضم عناصر من جميع هذه النماذج. ولكن طالما كل نموذج من اللغة القديمة يضع مختلف التنبؤات حول الزمن الذي ظهرت فيه قدرات معينة جديدة خلال مسيرة تطور الإنسان، فهي من حيث المبدأ قابلة للاختبار.‏‏

أما علم الوراثة فيقدم مصدراً مثيراً لدليل جديد عن أصل اللغة. الـ DNA المستعادة من متحجرات الإنسان القديم تسمح لنا بتخمين زمان ظهور التغيرات الهامة المرتبطة بمظاهر معينة من اللغة، وعند دراسة التغيرات الوراثية الحديثة يكون أيضاً بالإمكان تقييم توقيت إحداث التطور عبر فحص التغيرات في الإنسان الحديث. عدة جينات رُبطت مؤخراً بالتخلف العقلي على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن صعوبة التعلم (القراءة) تنتج عن مشاكل جوهرية مرتبطة بالطريقة التي تُنجز بها أصوات اللغة. هذه الجينات ربما لذلك تُربط بالعناصر الفونولوجية للّغة التي زعم نموذج داروين بنشوئها مبكراً وبنشوئها لاحقاً وفق نموذج ميخائيل أربب.‏‏

بالمقابل، رُبطت الجينات بالتوحد المؤدي لصعوبات في فهم مشاعر وأفكار الآخرين: القدرات رُبطت إلى السيمانتك. وحسب نموذج داروين فان شكل الإنسان العادي لهذه الجينات يجب أن يأتي لاحقاً، بينما النموذج الإيمائي يفترض وجودها في اللغة في مراحل مبكرة. أن تحديد زمان ظهور التغيرات الإنسانية المعينة لهذه الجينات سيسمح لنا باختبار مباشر لفرضيات اللغة القديمة.‏‏

لذا، على الرغم من أننا قد لا نكون قادرين أبداً على كتابة قاموس نياندرتال، إلا أن هناك سبباً كافياً للاعتقاد بأننا، وفي ضوء تحسّن بياناتنا في العقود القادمة، سنكون قادرين على اختبار أفكار حول تطور لغة الإنسان. حينذاك ستصل الدراسة العلمية لتطور اللغة إلى مرحلة النضج.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية