تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بين الرياضيات.. والفلسفة.. والموسيقا

ملحق ثقافي
2018/7/3
نصر الدين البحرة

أريد أن أعترف اعترافاً غير خطير، خلاصته أنني لست أدري كيف حصلت على شهادة الدراسة الثانوية. وأنا هنا لا أتحدث عن سعة مقرراتها وعمقها، وقد كانت كذلك، بل أريد الإشارة إلى الفرع الأدبي من هذه الشهادة،

وما كان يحفل به من مواد علمية، تهون جميعاً، بما فيها كتاب التشريح، وما أزال أذكر أن بحث الجملة العصبية فيه استغرق أكثر من مائة صفحة، وكتاب الفيزياء الذرية..الخ.. تهون إزاء مادة الرياضيات التي لا أستحيي من الاعتراف ثانية، أنني كنت طوال دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية من أكسل الطلاب فيها. وعلى سبيل المثال فقد توقف نجاحي في الشهادة الإعدادية، على الرياضيات، بعد أن حصلت على علاقات ممتازة في المواد الأخرى، وكان هذا يسمى إكمالاً. وهكذا اضطر أخي الأكبر أن يكلف أحد أصدقائه الضليعين بالرياضيات، أن يدرسني برنامجها الإعدادي، كي أتمكن من النجاح في الدورة الثانية عام 1950 .‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وربما كان هذا من وراء موقفي المعقد من هذه المادة، ففي الوقت الذي أكن لها فيه كراهية قوية، أنطوي على شعور عارم بالاحترام والإعجاب والإعجاز إزاءها، وقد دهشت حين تعرفت في الجامعة على زميل في قسم الفلسفة- كان شاعراً أيضاً، إذا لم تخني الذاكرة فهو حيدر إسماعيل- قال لي: إنه جاء لدراسة الفلسفة في جامعة دمشق، بعد أن نال الإجازة في الرياضيات.. من الجامعة الأميركية في بيروت.‏‏

ثم لم ألبث أن أدركت أن الاثنتين تمثلان أرقى قمم التجريد الفكري، تضاف إليهما الموسيقا.‏‏

وها هم أولاء أكابر الفكر الإغريقي والعربي، كلهم بارع معلم في الفلسفة.. كما في الرياضيات، وحسبي أن أقف قليلاً هنا، عند «فيثاغورث pythagore « وهو من القرن السادس قبل الميلاد، وقد أنشأ مدرسة فلسفية ضمت على نحو شبه مستمر زهاء ثلاثمائة طالب، أقام فيثاغورث بينهم شكلاً من أشكال الحياة الاشتراكية»، وقد كان هؤلاء التلاميذ متحدين، ولم يتميز أحد منهم بشيء يخصه، بل كان كل ما يملكونه، لجميعهم، ولم يكن لهم إلا كيس واحد. وكان التلميذ يمكث خمس سنواته الأولى في استماع أصول معلمه من غير أن يتفوّه في تلك المدة بكلمة واحدة، ثم بعد هذا الامتحان الطويل، ومقاساة تلك الشدة، يؤذن لهم في الكلام.»‏‏

فيثاغورث هذا هو صاحب النظرية الهندسية المشهورة: «مربع الوتر في المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين المجاورين». وحين ابتكر هذه المسألة ظن أنها إلهام إلهي.. نظراً لأهميتها..‏‏

وكان فيثاغورث يرى أن العدد هو مبدأ الموجودات ومادتها، والأعداد إما فردية وإما زوجية، فالزوجي غير محدود، والفردي محدود، إمّا لأنه يضع حداً للقسمة على اثنين، وإما لأنه إذا أضيف إلى الواحد، مجموع الأعداد الفردية، كان هنالك مربع تام.‏‏

ولقد توسع فيثاغورث في هذه النظرية، حتى إنه رأى أن الأعداد التي تزيد عن عشرة ليست سوى تكرار للعشرة الأُوَل التي هي مصدر الكل، وهي أيضاً أصل الحياة الإلهية والسماوية والبشرية.‏‏

وما دام العدد يؤلف كل شيء، فإن كل شيء متضمّن في ذاته أركان العدد أي الفردي والزوجي، أو المحدود وغير المحدود، والفردي المحدود أحسن الأشياء وأكملها، والزوجي غير المحدود هو عكس ذلك.. ولذلك فإن الأشياء تتجزأ إلى مجموعتين متعارضتين، تتضمن الأولى الخير والمحدود، وتتضمن الثانية الشر وغير المحدود.‏‏

وتتفرع من هذه الثنائية ثنائيات أخرى: وحدة وكثرة، يمين ويسار، ذكر وأنثى، سكون وحركة، معتدل ومنحنٍ، مربع ومستطيل، نور وظلام، حسن ورديء..‏‏

ومن عندنا نجد أن الفارابي كان فيلسوفاً ورياضياً في الآن ذاته. وقد اعتنق القمة الثالثة: الموسيقا. وقد ذكر ابن خلكان في «وفيات الأعيان» القصة المأثورة عن أبي نصر الفارابي، حين دخل على جماعة، فأخرج من وسطه «خريطة» يفسرونها بأنها آلة القانون فعزف عليها عزفاً أضحك الحاضرين، ثم عالجها وعزف على نحو آخر أبكاهم.. ثم عالجها من جديد وعزف عزفاً مختلفاً فنام الحاضرون، فتركهم الفارابي نياماً ومضى.‏‏

بين يدي الآن فهرست بالكتب والمؤلفات التي كتبها الفارابي، تجيء في مقدمتها ترجمته وشروحه مؤلفات أرسطو في الفلسفة والمنطق، وكتابه»إحصاء العلوم» الذي أفاد منه أوغست كونت، في خطته في «تقسيم العلوم» مثلما انتفع به هربرت سبنسر.‏‏

وكان الفارابي طبيباً ناقش آراء أبقراط وجالينوس، وربما كان هو الثاني بعد أفلاطون في تخيل «مدينة فاضلة.. أو جمهورية فاضلة» والكتابة عنها .في كتاب مشهور. وترك مؤلفات في علم الفلك: تعليق في النجوم، كلام في أن حركة الفلك دائمة، مقالة في الجهة التي يصح عليها القول بأحكام النجوم، وكتب في الفيزياء: الحيل والنواميس، كلام في الخلاء. ودخل مجال علم الحيوان: كلام في أعضاء الحيوان، وله صولات في الكيمياء «مقالة في وجوب صناعة الكيمياء والرد على مبطليها». ومن مؤلفاته في الموسيقا «الموسيقي الكبير» و» إحصاء الإيقاع» و» كلام في الموسيقا»...الخ.‏‏

والفارابي المدفون في دمشق وقد ناهز الثمانين في تربة الباب الصغير عام 339 هـ = 950 م كان شاعراً أيضاً، أثبت ابن أبي أصيبعة وابن خلكان بعض شعره:‏‏

لما رأيت الزمان نَكْساً‏‏

وليس في الصحبة انتفاعُ‏‏

كل رئيس به ملال‏‏

وكل رأس به صداعُ‏‏

لزمت بيتي وصنت عرضاً‏‏

به من العزّة اقتناع‏‏

أشرب مما اقتنيت راحاً‏‏

لها على راحتي شعاع..‏‏

ومن شعر أبي نصر:‏‏

بزجاجتين قطعت عمري‏‏

وعليهما عولت أمري‏‏

فزجاجة ملئت بحبر‏‏

وزجاجة ملئت بخمر‏‏

فبذي أدوّن حكمتي‏‏

وبذي أزيل هموم صدري‏‏

ثم ماذا بعد؟ لقد كنت أريدها بضعة سطور، تصلح مقدمة لكلام على هذه الطائفة من الكبار الموسوعيين، فإذا القلم يأخذني أي مأخذ، وإذا أنا معلّق في الفضاء، بين هذين القطبين: الفلسفة والرياضيات، وهما في الآن ذاته، مدار محور الوجود، منذ أن كانت حضارة حتى الآن، ونحن في عصر المعلوماتية والفضاء وما بعد التكنولوجيا.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية