عندما نرى صور الرضيعة اليتيمة فرح البالغة من العمر 35 يوماً، التي عثر عليها بين ذراعي أخيها الذي لقي حتفه نتيجة هذا الهجوم، أو العروسين محمد ومروة اللذين عادا إلى منزلهما بعد أن قضيا شهر العسل ليجدا منزل الزوجية قد تحول إلى ركام، نتوصل إلى قناعة تامة بأننا لم نكن مخطئين عندما قلنا بأن المملكة المتحدة كانت السبب الأساس في هذا الهجوم وفي سائر ما يجري من أعمال قتل في هذا البلد.
في الواقع، يمتد تاريخ هذا التواطؤ إلى قرن من الزمن، أي منذ عهد بلفور إلى بوريس جونسون، وقد مرت في الشهر الحالي الذكرى التي جرى بها التوقيع على إعلان بلفور عام 1917، تلك الوثيقة التي تتعهد بها بريطانيا بتقديم الدعم والمساندة لإقامة وطن لليهود في فلسطين، ذاك اليوم الذي منحت به بريطانيا أرضاً لا تملكها لشعب لا ينتمي إليها.
بالنسبة للحكومة المحافظة القائمة في الوقت الحالي، يعد إعلان بلفور مجالاً للفخر القومي، وفي عام 2017، عرض وزير الخارجية آنذاك بوريس جونسون على بنيامين نتتنياهو الطاولة التي وقع عليها أرثر بلفور على تلك الوثيقة، وفي ذلك الحين دعا جونسون رئيس الوزراء الإسرائيلي الزائر إلى عشاء بغية الاحتفاء بمرور الذكرى المئوية على ذلك الإعلان.
لم ينظر أي من السياسيين إلى ما قاله المؤرخ الإسرائيلي المنفي إيلان بابيه بأن بلفور كان في واقع الأمر أحد السياسيين البريطانيين المعادين للسامية في القرن العشرين، فقد اضطهد الشعب اليهودي القادم من أوروبا الشرقية الذي وصل إلى المملكة المتحدة وذلك من خلال إصداره قانون الأجانب عام 1905، وأصبحت الصهيونية أداة ملائمة تمكن السياسيين البريطانيين من إبعاد الشعب اليهودي عن المملكة المتحدة، إذ قال بابيه: (بإمكانك أن تكون معادياً للسامية وداعماً لإسرائيل).
وقد قالت المحامية الفلسطينية سلمى كرمي الأيوب مؤخراً إن الوسائل التي فرضتها بريطانيا على الفلسطينيين لقمع ثورتهم في الثلاثينيات من القرن الفائت قد (ورثتها) إلى إسرائيل التي انتهجت إلى تطبيقها على نحو واسع في الوقت الراهن، وتتضمن تلك الوسائل هدم المنازل كعقوبة جماعية وفرض حظر التجول والاعتقال الإداري (السجن دون المحاكمة).
لقد قدمت بريطانيا في عام 2019 مزيداً من الأسلحة إلى إسرائيل بدرجة تفوق السابق، وكشفت أرقام جمعية (حملة مناهضة التسليح) بأن المملكة المتحدة أصدرت رخصاً تقدر قيمتها بـ 364 مليون جنيه استرليني ثمن معدات وتكنولوجية عسكرية بهدف تصديرها إلى إسرائيل بين عامي 2014 و2018.
واعتراضاً على عمليات البيع عمد الناشط الحقوقي والمحاضر في مجال حقوق الإنسان أدي مورميتش إلى الصعود على سطح مبنى شركة (أنظمة إلبيت)، تلك الشركة التي تنتج 85% من الطائرات المسيرة المستخدمة من قبل الجيش الإسرائيلي، ليعبر للجميع عن استيائه إزاء تصنيعها أسلحة تقتل أصدقاءه في غزة، وأخذ يتساءل: أين العقوبات البريطانية؟ نحن لا نزال مدافعين فخورين، وشركاء تجارة، وموردي أسلحة لدولة تعدها الأمم المتحدة منتهكة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني.
ونرى أن الأمر لا يستدعي محام في حقوق الإنسان كي يتفهم التكلفة الإنسانية عند إسقاط قنابل على قطعة من الأرض المحاصرة تعد موطناً لمليون طفل.
نتساءل في هذا السياق، هل فوز حزب العمل في الانتخابات العامة البريطانية سيحدث أي فارق في حال سقوط قنبلة على طفل في غزة؟ ففي بيان أصدره الحزب تعهد به (بتعليق فوري لعمليات بيع الأسلحة إلى إسرائيل والتي تستخدم في انتهاك حقوق المدنيين الفلسطينيين) الأمر الذي لاقى ترحيباً من النشطاء الفلسطينيين في المملكة المتحدة.
وفي مختلف الأحوال، ثمة تعهدات أخرى أطلقها مؤتمر حزب العمل في هذا العام لم يأت البيان على ذكرها، وتحديداً معارضة الحزب لأي اتفاقية سلام لا تنسجم مع قرارات الأمم المتحدة، وقد أظهر المؤتمر سبقاً عندما أعلن عن سياسة مقاطعة البضائع المنتجة في المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية، وذلك على غرار ما أقرته إيرلندا هذا العام، وعلى الرغم من هذا الاحتجاج السلمي تعهد بوريس جونسون بمواجهته بشدة، إذ أعرب عن بذله الجهود للحيلولة دون قيام المجالس المحلية والهيئات العامة بمقاطعة السلع التي تنتجها المستوطنات.
وفي ذات الأثناء، أميط اللثام عن مناقشات سرية تجريها وزيرة الداخلية بريتي باتل مع إسرائيل بشأن إمداد الجيش البريطاني بمساعدات خارجية بريطانية بغية تقديم الدعم الطبي (للاجئين سوريين) في حين كان مجلس الوزراء البريطاني ينكر تقديم أي دعم مالي إلى الجيش الإسرائيلي.
لا نعلم إلى أي مدى من الممكن أن يذهب جيرمي كوربين في تنفيذ سياسة تضع حداً لعمليات قمع الشعب الفلسطيني، ويعد ما أطلقه من وعد بالاعتراف بدولة فلسطين في حال تسلمه منصب رئيس الوزراء ليس سوى إشارة رمزية، ولاسيما أن الفلسطينيين ينظرون إلى تصريحه الذي يشير به إلى تمسكه بحل الدولتين باعتباره تصريحاً لا جدوى منه، بيد أن تسلم كوربين قد يكون أفضل بالنسبة للفلسطينيين عما عليه الوضع الراهن.
لا ريب بأن الإجراءات المتخذة في المملكة المتحدة لها تأثير على الشعب الفلسطيني، وتنطوي الانتخابات الحالية على توقعات لها أهميتها.