ولا حتى تتصرف على هذا النحو في مواقفها السياسية على الرغم من استحقاقها لهذه المكانة بالمعطيات الدولية الراهنة وبحسابات تفوقها الاقتصادي بالمعايير العالمية التي تؤهلها لأن تكون شريكة للكبار, إذ تصنف بكين مكانتها بتواضع كبير على لائحة الدول النامية, وتبني على هذا الافتراض استراتيجيتها وأهداف سياساتها, وهي في هذه المرحلة, لا تطمع في أكثر من تكريس زعامتها للدول النامية, فهي من جهة لا تريد مزاحمة مراكز القوى العالمية الراهنة حتى لاتجد نفسها متورطة في صراع, لم تنضج بعد الشروط اللازمة لتكسب معركته, والأمر الثاني, هو تحقيق الهدف نفسه الصعود إلى القمة, ولكن عن طريق بديل قد يكون طويلاً, ولكنه أكثر أماناً وأقل كلفة في بلوغ الغاية نفسها, وتراهن الصين على أن الكثرة يمكن لها أن تغلب القوة في نهاية المطاف, فأكثرية دول العالم تقع في واقع الأمر في دائرة الدول النامية, أو الأقل نمواً, وجلها دول تعاني الأمرين من نظام الهيمنة الدولي الحالي, الذي تسيطر عليه قوى حققت مكانتها من حصاد إرثها الاستعماري, إذ نهبت خيرات الشعوب ومواردها واستخدمتها في بناء نهضتها .
لتكون النتيجة هذا البون الشاسع والفرق الهائل بين الدولة المتقدمة وغيرها من الدول. لقد بدأت الصين في نسج خيوط تكريس زعامتها العالمية, من وضع هذه الحقيقة التاريخية والواقعية في آن معاً في اعتبارها, وهي تغزل على مهل خيوط تحالفاتها المستقبلية, ولترفع شعار المنفعة المتبادلة والشراكة المتكافئة سبيلاً لتحقيق زعامتها وليس بالضرورة أن يكون هذا نهجاً أملاه تمسك القيادة الصينية بالوازع الأخلاقي في رسم استراتيجيتها وسياساتها, ولكنه من المؤكد دليل حكمة وبعد نظر, فهي بالتأكيد تهدف من خلال هذا السعي كله لتحقيق مصالحها ورعايتها.
تريد الصين ببساطة أن تقول إنها تريد لعصر زعامتها أن يكون ذا فسحة إنسانية يقوم على احترام الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أودينه وعلى رعاية تبادل المصالح لا فرضها وجعل منافعها بين أطرافها.
وأكثر من ذلك فإن التجربة علمت بكين عدم الاستهانة بالدول النامية وتلك التي في المرتبة الأدنى, إذ طالما ناصرت هذه الدول في المنظمات الدولية, وأنجتها من الضغوط الدبلوماسية وغيرها.
يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقالة له بصحيفة نيويورك تايمز: إنني لا أزال متمسكاً بقناعتي الراسخة, وإن لم يفرغ المؤرخون من تسجيل أحداث هذه الحقبة العصيبة من تاريخنا المعاصر, بأن الحديث الأهم والحاسم فيها, لن يكون هجمات الحادي عشر من أيلول, ولا غزونا لكل من العراق وأفغانستان, وإنما بروز العملاقين الآسيويين الصين والهند, لذلك فإن الاتجاه الواجب علينا مراقبته ورصده عن كثب هومدى قدرة بقية دول العالم على التكيف مع بروز هاتين القوتين, وكيف تتمكن أميركا من التعاطي مع الفرص الاقتصادية الكبيرة التي يتيحها هذا النهوض الآسيوي وكيف ستستجيب للتحديات التي يثيرها أمامها? ويمضي ( فريدمان) أكثر من ذلك معرباً عن تقديره أن الصين ستكون الدولة المرشحة لتشكيل السياسات الأميركية لعام 2008 يقصد بذلك انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة.
كاتب سوداني