والحل الأنجع والاستشفاف المبدع لما وراء الظاهر وصولاً إلى التقاط المصائر المحتملة وجعل القرار يكتسب الكثير من صفة التنبؤ بما يعني أن تحليل العناصر المواجهة وفهم القوى الحاكمة وقدرات المحكومين على التحول, وبأي اتجاه كل ذلك من شأنه أن يسعف القرار ليكون الأكثر صلة بالواقع والأكثر استجابة علمية للوقائع فتأتي السياسة إلى أن يبنى الشيء على مقتضاه ويصل الناس من حكمتها إلى النجاح لمؤكد في كل توجه في القضايا الوطنية والإنسانية ولاسيما حين تكون الشعارات قد رسمت الطريق إلى ما يتوجب الوصول إليه.
وعلى هذا التأسيس نلاحظ أن ما طرحته أحلام القطب الوحيد الذي أدار الحكومة العالمية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية في غرة العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم, لم تستطع القوى الفاعلة في ذلك القطب المعني أن تجد له السياسة المناسبة ومن منهج التحليل التاريخي لعقد ونصف مضت على طريقة ذلك القطب الوحيد في إدارة النظام العالمي الذي لم يتجدد نتوصل إلى مقاربات موضوعية تشير إلى تعددية مضطربة في اختيار الاستراتيجيات السياسية, وفي اختباراتها كذلك من منظور أن الزمان هو الحكم الوحيد على واقعية القرار السياسي ومصداقيته فالقرار يتخذ دوماً ليلامس الواقع ويعين المستقبل أما إذا خلا القرار من مستهدفات المستقبل سيكون قراراً آنياً محدوداً يبقى على سطح الحدث المواجه لا يخدمه أبداً إن لم نقل إنه سيعطل آليات هامة في طبيعة تأثيراته ليأخذ بالتحول نحو الإضرار المستمر ولا يمكن أن يستأنس إلى نتائجه إلا إذا تم العمل على اجتراح نهاية له يحالفها التوفيق والعدل والمنطقية.
وفي هذا الشأن نرى إلى بنية السياسة الأميركية منذ ولاية الرئيس دبليو بوش عام 2000 حتى اليوم لنجدها قد اختيرت استراتيجياتها بمعزل عن فهم طبيعة العالم حتى لو افتقد هذا العالم توازنه بخروج قطب التوازن منه وعليه فقد اعتقد المستشارون وصناع القرار العالمي في الإدارة الأميركية الحالية أنه بخلق حدث جلل في داخل الولايات المتحدة الأميركية يتمكنون من جعل العالم يقف على حد فاصل بين تاريخين: الأول تاريخ ما قبل الحدث والثاني ما بعده وافترضوا أن ذاكرة العالم وقواه الحية سوف تتجاوب معهم في هذا المفترض الجديد لحال العالم ولبوابة التاريخ الجديد فيه, وعلى هذا الأساس تم تشكيل التحالف العالمي ضد الإرهاب الدولي, وتم تغيير وثيقة الأمن القومي لأميركا حتى تكون السياسة قادرة على دخول منهجها الجديد, أي رفض كافة مبادئ السياسة الأميركية ولا سيما مبدأ مونرو, وصولاً إلى مبدأ ترومان بما يعني احتواء العدو بأي شكل من أشكال السياسة وفرض لغة الحرب الاستباقية, وتجفيف منابع الإرهاب الدولي ومنع الإرهاب من الوصول إلى الولايات المتحدة وحلفائها في هذه الحرب العالمية المزمعة ومن بعد احتلت أفغانستان لكون القاعدة هي المتهم الوحيد في أحداث الحادي عشر من سبتمبر .2001 وبعيد احتلال أفغانستان ووضع حد لنظام طالبان لم يدر صانع القرار الأميركي أن انتقال أميركا إلى هذا الحال العالمي سيستدعي مقتضيات جديدة في السياسة الأميركية على أساس اقناع من احتلت أرضهم بالمصداقية الأميركية في إدخالهم وقائع جديدة تصبح حياتهم فيها أكثر استقراراً وأمناً وعدلاً حتى تكتسب الحالة الاحتلالية مشروعيتها من إنسانيتها في التعاطي مع أحلام من تم احتلال بلدهم ومشروعهم فيها ومستقبلهم لكن الوقائع التي شرع الاحتلال التحالفي في أفغانستان ببنائها لم تقنع الناس بأنهم سينتقلون إلى أحسن مما كانوا عليه وهنا خسر القرار الأميركي منطقيته وعدله وصدقيته.وحين لم تكتف أمريكا بما حصل لها في أفغانستان محاولة الهروب إلى الأمام عبر خلق ذرائع لم تؤيدها الاختبارات الدولية في الادعاء بأن نظام صدام حسين في العراق أصبح يهدد كل من في منطقة الشرق الأوسط من خلال امتلاكه أسلحة التدمير الشامل وقامت - من خارج القرار للشرعية الدولية- باحتلال العراق متخيلة أن السيطرة على العراق ستحقق لها وقائع جديدة في المنطقة المعنية وبسياسة حكم عليها الزمان الذي لم يزد على أربعة أعوام بأنها كانت خاطئة بتصريحات الرئيس الفرنسي شيراك الذي أصبح يحمل واشنطن مسؤولية نشر الإرهاب في الشرق الأوسط بدلاً من تجفيف منابعه وزاد على هذا الموقف وزير الخارجية الفرنسي دوست بلازيه حين دعا إلى مغادرة القوات الاميركية العراق بحلول موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة نهاية عام 2008 ومما هو جدير بالذكر أن الوزير الفرنسي المذكور في حديث له لقناة(بلوس) التلفزيونية أكد على ضرورة الانسحاب للقوات الأميركية وللقوات الأجنبية المساندة لها حتى يتمكن العراقيون من تحديد مصيرهم بأيديهم وهذا يعني أن مصير العراق سوف يبقى مهدداً بوجود الاحتلال.
فإذا كان ذلك كذلك فأين سياسة تحرير العراق وإقامة الديمقراطية فيه, وتحقيق نموه وازدهار حضارته بعد سقوط الطغيان منه ?!! ما يبدو أن حلفاء أميركا باتوا مشككين بحكمة القرار الأميركي في السياسة وباتوا لا يرغبون بالسير خلف المستشارين الحاليين للإدارة الأميركية وطريقة اتخاذ القرار الحالية.
وحين قدم تقرير بيكر-هاملتون استراتيجية الطريق إلى الأمام بدلاً من سياسة واستراتيجية متابعة المسار في العراق وكان الجوهر في استراتيجية بيكر-هاملتون يوحي بأن العودة عن الخطأ الحربي,واعتماد فقه السياسة العادلة ومحاولة التخفيف على الأميركان والمتحالفين معهم في احتلال العراق وعلى العراقيين كذلك الخسائر الواقعة بدون الوصول إلى أي نتائج تتحقق على الأرض تعوض- على الأقل- حجم هذه الخسائر إلا أن إدارة الرئيس دبليو بوش لم تستجب لأفكار بيكر-هاملتون بل اعتبرتها اقتراحات غير ملزمة وصممت طريقاً جديداً على منهجها إلى الأمام.
فالطريق إلى الأمام البيكري-الهاملتوني لا يؤدي إلى الأمام في السياسة الراجحة الحكيمة المطلوبة لأميركا بوش الثاني بل الطريق الجديد إلى الأمام كما يراه مستشارو الجمهوريين, واليمين المحافظ في إدارة الرئيس بوش الثاني هو الطريق الأسلم كما ورد في كلمة الرئيس للأمة الأميركية ليلة الخميس 11-1-2007 حيث حسم الرئيس للإدارة الحالية كل توقع بالعزم على مواصلة الخطاب الحربي التدخلي وعدم ترك العراقيين يتولون تقرير مصيرهم بأيديهم وزاد على المتوقع منه بأنه لن يسمح لسورية وايران بمساعدة المقاومين في العراق بل سيستخدم القوة وقد بدأها في اعتقال موظفين في القنصلية الإيرانية في إحدى مدن العراق بحجة واهية, ولكنها تعطي الدليل على الغلو أكثر من التعقل.
وعوداً على التأسيس الذي قدمناه بأن الزمان هو الحكم على مصداقية أي قرار في السياسة سنذكر بأن ماقاله المستشار في وزارة الدفاع الأميركية سيمور هرش بأن جدلاً واسعاً بين القادة الأميركيين حول ما إذا كان استهداف أعداد كبيرة من المدنيين يشكل أسلوباً سياسياً فعالاً لتحقيق استقرار مفروض بالقوة للاحتلال واخضاع العراقيين لهذا الاستقرار وأن قرار استئصال البعثيين ومجمل فصائل المقاومة لم يمنح المحتلين أي فترة من الهدوء بل خرج الأمر عن السيطرة ودخلت القوات الأميركية فيما سمي في زمن الاحتلال الأميركي لفيتنام ببرنامج فينكس حين راحت القوات الأميركية تقتل وتعتقل الفيتناميين دون تعيين وبتهمة جاهزة أنهم متعاملون مع المقاومة. وهذا ما جعل القوات الأميركية في العراق تتسبب بقتل أكثر من سبعمئة ألف مواطن عراقي كما أعلن عنه دون تحقيق أي استقرار لها وللعراق وهذا هو الرئيس بوش في استراتيجية الطريق الجديد إلى الأمام يجبر على الاعتراف بضرورة اصلاح القرار المتخذ حول اجتثاث البعث, وبذلك يكون القرار المذكور قد اتخذ ليس بخطأ في السياسة وحسب بل بتوجيه من الصهيونية واسرائيل لكون البعث يمثل الحزب العربي الذي لا يتنازل عن وحدة كل قطر الجغرافية والتاريخية حتى تبقى وحدة الأمة العربية جغرافياً, وتاريخياً مضمونة.
وبعد أن طلع الرئيس بوش الثاني على العالم باستراتيجية الطريق الجديد إلى الأمام وما أصر بها على الخطاب الحربي وارسال أكثر من واحد وعشرين ألف جندي إلى العراق والتمسك بعدم تحديد جدول زمني للخروج والمجاهرة بتهديد سورية وايران.
إن كل هذه المكابرات السياسية التي كلفت أميركا حتى الآن 350 مليار دولار حسب تقديرات وكالة فرانس برس وأكثر من ثلاثة آلاف قتيل من الجيش الأميركي لم ترشد القرار السياسي للرئيس بوش وأطقمه من اليمين المحافظ الجديد, بل اختط الطريق الجديد إلى الأمام لكي يواصل استراتيجيته الأساسية ( الالتزام بالمسار) وما تبديل اسم استراتيجيته المعنية سوى عملية هروب إلى الأمام , وليست استراتيجية الطريق الجديد إلى الأمام والزمن الآتي سوف يظهر فشل هذه الاستراتيجية كما أثبت الزمان الذي مضى فشل الاستراتيجية الأولى فهل يعود صانع القرار الأميركي إلى لغة العقل السياسي الحكيم في إعطاء كل ذي حق حقه وإنهاء منطق السطو الامبراطوري على أرض الغير ومصيره?
هذا ما تنتظره أحلام البشرية من السياسة الجمهورية الحالية لأميركا أو من السياسة الديمقراطية المتوقع أن يأتي زمانها في نهاية عام 2008 وإلى ذلك الزمان ليس أمام العرب إلا المقاومة والصمود والتحدي.