ثم قبولها لاحقا, او حتى المرور العابر امام الدعوات المتزايدة لاستقالة دونالد رامسفيلد من منصبه بسبب مسؤوليته المباشرة عما آل اليه وضع الوجود العسكري الامريكي في العراق والذي يعاني من مأزق خطير.
وأهمية الدعوات الاخيرة انها تأتي من داخل المؤسسة العسكرية الامريكية نفسها من قادة وجنرالات متقاعدين من ذوي النفوذ والسمعة داخل الجيش الامريكي, ولربما كان لموقف قائد الفرقة الاولى الذي سبق وأن خدم في العراق ما يعطيه اهمية استثنائية لان هذا القائد تعامل مع رامسفيلد عن قرب حول سير العمليات ولا بد ان يكون قد كون حصيلة من الملاحظات المباشرة التي لخصها هو وبقية القادة الميدانيين لانهم وحدهم الذين كانوا يواجهون حقائق الارض وليس عبر المكاتب كما كان رامسفيلد والذي يظنه اولئك القادة بأنه متعجرف في تعامله معهم برغم انهم اصحاب الاختصاص المهني, وكشف اولئك القادة ان رامسفيلد كان يملي عليهم رؤيته حتى في تحديد تفاصيل ما يجب ان يتخذ من تدابير, وهذا ما كان يعكس استخفافا واستهانة بكبار القادة العسكريين.
ولم تكن هذه اول مواجهة علنية بين رامسفيلد ومسؤولين امريكيين منحدرين من المؤسسة العسكرية او قادة سابقين ولعل الخلافات الساخنة والتي طفت على السطح بين وزير الدفاع الامريكي والجنرال كولن باول حينما كان يشغل حقيبة الخارجية ما يعزز هذا التقاطع الحاد بين تصور من بيده سلطة اتخاذ القرار وفرضه على الآخرين ومن سيدفع ثمن الخطأ في تقدير الموقف العسكري برغم عدم قناعته بصواب الحسابات التي استند عليها, فالجنرال باول والذي جاء الى الخارجية وهو يحمل اوسمة نصر حرب الخليج الثانية حين كان يشغل منصب رئيس هيئة الاركان المشتركة رأى في الخطة المعتمدة لغزو العراق عام 2003 نقصاً يكاد يرتقي الى مستوى الخلل الفادح في جوهر الخطة, ولم يشأ ان ينأى بنفسه عن مشاهدة تفاصيل الخطة والسماح بتمريرها دون رأي اختصاصي ولذلك طالب بإدخال التعديلات التي قدم لها الحجج الكافية ولكن رامسفيلد الذي ينتمي الى مدرسة اخرى لم يشأ ان يفقد وجاهة المكاسب التي ستحقق في ساحات الحرب وحينما دخلت المواجهة في مرحلتها الجديدة, وخاصة بعد تصريحات كوندليزا رايس بارتكاب آلاف الاخطاء رد رامسفيلد مشككاً بقدرات خصومه حينما قال إن احدا لم يكن بمقدوره ليتكهن بالوقت الذي ستستغرقه الحرب, وهنا لا بد ان يكون رامسفيلد قد دخل في تناقض حاد حينما ظل متمسكاً بأطروحة النصر التي اقيم اول احتفال لها على ظهر احدى قطع الاسطول الامريكي وحضره بوش شخصياً, وفي اول رد فعل للرئيس بوش على دعوات تنحية رامسفيلد من منصبه اكد تمسكه به ودعمه له واعتبر وجوده عامل قوة وحزم لان الولايات المتحدة بحاجة الى رجال من طراز رامسفيلد, ويعلل المراقبون موقف بوش هذا وبرغم الاخفاقات الامريكية في العراق بأنه اذا ما انصاع الى رأي المؤسسة العسكرية فمعنى ذلك انه سيفتح بابا واسعا من تدخلها في القرارات العليا, وهذا لا ينسجم مع خصوصية النموذج الغربي والتجربة الامريكية التي تحصر القرارات في القيادة السياسية وتوكل مهمة تنفيذها الى الجيش الذي يتولى رسم الخطط اللازمة لانجازها.
ويبدو ان الرئيس بوش اخذ يتحسس من تدخل القادة العسكريين في الشأن السياسي لانه يرى ان استجاب لمطالبهم بإقصاء رامسفيلد فمعنى ذلك الاعتراف لهم بحق المشاركة في اتخاذ القرارات الاخرى التي لها صلة بالخطط العسكرية مما يحول البلاد الى سلطة مشتركة في احسن ظروفها خاصة وان الولايات المتحدة تمتلك اوسع انتشار عسكري في العالم ثم ان بوش اذا رضخ لرأي القادة العسكريين السابقين فإنه سيقطع احد ذراعيه وحينها ستنتقل المطالبات لإقصاء نائب الرئيس ديك تشيني, وهذا ما لا يمكن ان يتوقعه احد حتى وان توفرت لدى الرئيس القناعة التامة بأن الرجلين هما اللذان زينا له نزهة الحرب على العراق فمضى إليها ولا يوجد في ذهنه الا صور من الزهور والحلوى التي سيقابل بها العراقيون جحافل الجيوش الزاحفة نحو بغداد, فلماذا وصلت الازمة الامريكية بشأن التورط في العراق الى هذا المأزق التاريخي, وهل كان لهذه الدعوات ان تنطلق وبهذا المستوى لو ان المشروع الامريكي قد حقق اهدافه في العراق? ان من المفهوم ان الهزيمة تطرح اسئلة قوية حول اسبابها وتبحث لها عن ضحايا يحملون اوزارها ويرحلون بصمت عن الواجهة, ولهذا فقد تصاعدت الاتهامات وكل من الذين تدور حولهم شبه الاسهام بالهزيمة يحاول ان يسبق الآخرين ليحصل على قارب نجاة يوصله الى بر الامان, وهذا ما يجري حاليا تماما, لم تنفع كل المحاولات الرسمية بالتستر على حجم الكارثة الوطنية التي تنتظر الولايات المتحدة, خاصة وان ذكريات الحرب الفيتنامية لا تزال طرية يعيش فصولها من شهد اهوالها ويحاول ان يجري المقارنات التي لا بد ان تخلق حالة تطابق مرعبة في صور النتائج النهائية.
فهل سيتخذ بوش القرار الصائب قبل فوات الأوان, أم أنه سيركب الحصان الخاسر, وحينذاك ستكون هزيمة بلاده أكبر من أن يستطيع احد معالجة اثارها الابعد فترة طويلة.